وقال رحمه الله تعالى في سياق الآيات باب ذكر الموت وقصر الأمل: وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) والآيات في الباب كثيرة معلومة، وأما الآحاديث: 1/574- فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل)). وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يقول: (( إذا أمسيت ، فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظرِ المساءَ، وخذ من صحتك لمرضكَ، ومن حياتك لِموتك )) رواه البخاري.د
 
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين، الكتاب الموافق لاسمه، فإنه رياض، رياض لأهل الصلاح، فيه من الأحكام الشرعية والآداب المرعية ما يزيد به إيمان العبد، ويستقيم به سيرة إلى الله عز وجلّ، ومعاملته مع عباد الله، ولهذا كان بعض الناس يحفظه عن ظهر قلب لما فيه من المنفعة العظيمة. هذا الكتاب كان من جملة أبوابه ، باب ذكر الموت وقصر الأمل، وذكر المؤلف فيه آيات متعددة، سبق الكلام عليها، وآخرها قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه......) ، يعني ألم يأت الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله عزَّ وجلَّ؟
والخشوع معناه الخضوع والذل (لِذِكْرِ اللَّه) يعني عند ذكره، فإن المؤمنين ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(الأنفال: 2)
وقوله : (لِذِكْرِ اللَّه) أي لتذكر الله وعظمته، (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) أي : ويخشعون لما نزل من الحق، وهو ما كان في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا الكتاب جاء بالحق، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه هذا الكتاب جاء بالحق، فيحق للمؤمن أن يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق.
قال (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )، يعني ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل وهم اليهود والنصارى، فاليهود أوتوا التوراة، والنصارى أوتوا الإنجيل، ومع ذلك فإن اليهود كفروا بالإنجيل، والنصارى كفروا بالقرآن، فصار الكل كلّهم كفاراً، ولذلك كان اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مغضوباً عليهم؛ لأنهم علموا الحق وهو ما جاء به عيسى، ولكنهم استكبروا عنه وأعرضوا عنه.
أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان اليهود والنصارى كلهم مغضوباً عليهم، وذلك لأن النصارى علموا الحقّ فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك استكبروا عنه، فكانوا كلهم مغضوباً عليهم ؛ لأن القاعدة في المغضوب عليهم أنهم الذين علموا الحق ولم يعموا به كاليهود والنصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الذين أوتوا الكتاب (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَد)ُ أي : الوقت (فَقَسَتْ قُلُوبُهُم)ْ ؛ لأن النبي صلى الله بعث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرف فيها من انحرف من أهل الكتاب، ولم يبق على الأرض من أهل الحق إى بقايا يسيرة من أهل الكتاب، ولهذا قال: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ولم يقل أكثرهم فاسقون، ولم يقل كلهم فاسقون، فكثير منهم فاسقون خارجون عن الحق.
فحذر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَد فَقَسَتْ قُلُوبُهُم).
وإذا نظرت إلى الأمة الإسلامية ، وجدت أنها ارتكبت ما ارتكبه الذين أوتوا الكتاب من قبل. فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قست قلوب كثير منهم وفسق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلاً للولاية لفسقه؛ بل ومروقه عن الإسلام، فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أن الحكم بالقوانين أفضل من حكم الله ورسوله كفار بلا شك ومرتدون عن الإسلام.
ولكن الله سبحانه وتعالى يبلو الناس بعضهم ببعض، وإذا صبر المؤمن واحتسب وانتظر الفرج من الله عزَّ وجلَّ، وعمل الأسباب التي توصل إلى المقصود؛ يسر الله له الأمور.
فالمهم أن الله نهانا أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فقست قلوبهم، ولكن صار الكثير منا في الوقت الحاضر متشبهاً بهؤلاء الذين قست قلوبهم، وكثيرٌ من هؤلاء أيضاً فسقوا عن أمر الله وخرجوا عن طاعة الله.
ثم قال المؤلف : والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ معلومة.
وأما الأحاديث فمنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (( أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي)). يعني أمسك به، والمنكب هو أعلى الكتف، أخذ به من أجل أن ينتبه ابن عمر لما سيلقي إليه الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام من القول.
وهذا من حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تكلم؛ اتخذ الأسباب التي توجب انتباه المخاطب، إما بالفعل كما هنا، وإما بالقول كما في قوله: (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) قالوا : بلى يا رسول اللهله، فهذا يلقى إليهم لأجل أن ينبهوا.
أخذ بمنكبي وقال : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) سبحان الله! أعطى الله نبيه جوامع الكلم، هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا نبراساً يسير الإنسان عليه في حياته (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
والفرق بينهما أن عابر السبيل ماشٍ يمر بالقرية وهو ماشٍ منها. وأما الغريب فهو مقيم فيها حتى يرتحل عنها، يقيم فيها يومين أو ثلاثة أو عشرة أو شهراً، وكل منهما لا عابر السبيل ولا الغريب كل منهما لم يتخذ القرية التي هو فيها لم يتخذها وطناً وسكناً وقراراً.
فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: كن في الدنيا كهذا الرجل، إما غريب أو عابر سبيل.
والغريب وعابر السبيل لا يستوطن، يريد أن يذهب إلى أهله وإلى بلده، لو أن الإنسان عامل نفسه في هذه الدنيا بهذه المعاملة لكان دائماً مشمراً للآخرة، لا يريد إلا الآخرة، ولا يكون أمام عينيه إلا الآخرة حتى يسير إليها سيراً يصل به إلى مطلوبه. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح.
وكان ابن عمر يقول : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" المعنى لا تؤمل أنك إذا أصبحت أمسيت، وإذا أمسيت أصبحت، فكم من إنسان أصبح ولم يمس! وكم من إنسان أمسى ولم يصبح! وكم من إنسان لبس ثوبه ولم يخلعه إلا الغاسل! وكم من إنسان خرج من أهله قد هيأوا له غداءه أو عشاءه ولم يأكله! وكم من إنسان نام ولم يقم من فراشه! المهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يطيل الأمل؛ بل يكون حذراً حاذقاً حازماً كيساً، هذا معنى قوله : ((إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)).
قال : (( وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) الإنسان الصحيح منشرح الصدر، منبسط النفس، واسع الفكر، عنده سعة في الوقت والصحة، لكن ما أكثر الذين يضيعون هذا ؛ لأنه يؤمل أن هذه الصحة سوف تبقى وتدوم، وأنه سوف تطول به الدنيا، فتجده قد ضيع هذه الصحة.
فابن عمر رضي الله عنهما يقول: (( خذ من صحتك لمرضك)). المرض تضيق به النفس، ويتعب به الجسم، وتضيق عليه الدنيا ولا يستطيع أن يعمل العمل الذي يعمله في حال الصحة، فليأخذ من صحته لمرضه، ومن حياته لموته، قس ما بين حياتك وموتك أيهما أطول؟ لا شك أن الحياة لا تنسب للموت، كم للرسول عليه الصلاة والسلام ميتاً؟ كم لمن قبله؟ وحياتهم قليلة بالنسبة لموتهم، فكيف إلى الآخرة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يأخذ من حياته- ما دام الله قد أحياه - لموته إذا عجز عن العمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا ما ت الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) فخذ من حياتك لموتك.

الموضوع السابق


وقوله سبحانه وتعالى: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) إنما قال خسروا أنفسهم؛ لأنهم أخرجوا إلى الدنيا وجاءتهم الرسل وبينت لهم الحق، ولكنهم والعياذ بالله عاندوا واستكبروا فخسروا أنفسهم ولم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، قال الله تعالى ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر: 5). ثم قال تعالى مبيناً إنهم كما يعذبون بدنياً ، فإنهم يعذبون قلبياً، فيقرعون ويوبخون فيُقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (المؤمنون :105)، فقد تليت عليهم آيات الله، وبينت لهم، وجاءتهم الرسل بالحق، ولكنهم كفروا والعياذ بالله، وكذبوا بهذه الآيات. قالوا في الجواب (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ) (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا) يعني: إن عدنا إلى التكذيب (فَإِنَّا ظَالِمُونَ) ، فيقرون والعياذ بالله بأن الشقاوة غلبت عليهم وأنهم ضلوا الضلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.