68- باب الورع وترك الشبهات قال الله تعالى: ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(النور:15) وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14).
 
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب الورع وترك الشبهات.
الورع والزهد يشتبه معناهما عند بعض الناس، لكن الفرق بينهما كما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: الورع ترك ما يضرُّ في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع، فمقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأن الورع أن يترك الإنسان ما يضره، والزهد أن يترك ما لا ينفع؛ لأن الأشياء ثلاثة أقسام: ضار، ونافع، وما ليس بضار ولا نافع يعني منها ضار، ومنها نافع، بضار ولا نافع.
فالزاهد يترك شيئين من هذا؛ يترك الضار، ويترك ما ليس بنافع ولا ضار، ويفعل ما هو نافع.
والورعُ يترك شيئاً واحداً منها وهو ما كان ضاراً، ويفعل النافع، ويفعل الشيء الذي ليس فيه نفع ولا ضرر.
وبهذا صارت منزلة الزاهد أرفع من منزلة الورع، وربما يطلق أحدهما على الآخر؛ فالورعَ ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبهة؛ المشتبهة في حكمها، والمشتبهة في حقيقتها، فالأول اشتباه في الحكم والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباهاً في تحريمه، وفعله إن كان اشتباهاً في وجوبه لئلا يأثم بالترك.
ثم إن المؤلف رحمه الله ذكر آيتين في هذا الباب، قال رحمه الله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ ٌ)(النور: 15)
(وَتَحْسَبُونَهُ) الضمير يعود على ما تلقَّاه الناس من حديث الإفك الكذب في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: كانت زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان المنافقون يتربّصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يشوهوا سمعته، ويدنسوا عِرضه، فحصلت غزوة من الغزوات ، فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً منها نام في أثناء الطريق، وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن رجال يساعدون في ترحيلهن.
فلما كان في آخر الليل ذهبت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها فجاء الذين يحملون الهودج الذي تركب فيه فحملوه على البعير وشدوه عليه، وظنوا أنها كانت فيه؛ لأنها كانت في ذلك الوقت صغيرة السن خفيفة الوزن.
ثم سار الركب، فلما رجعت عائشة رضي الله عنها إلى المكان وجدت الناس قد رحلوا، فكان من ذكائها وثبات جأشها وطمأنينتها أن بقيت في المكان، فلم تذهب تتجول يميناً وشمالاً؛ لأنها لو ذهبت ربما ضاعت وضيعوها، لكنها بقيت في مكانها، وكان رجل من خيار الصحابة يُقال له: صفوان بن المعطل نائماً، وكان من قوم إذا ناموا لم يستيقظوا إلا إذا شبعوا من النوم.
فاستيقظ صفوان رضي الله عنه فوجد الناس قد رحلوا، ورأى هذا الشبح؛ هذا السواد، فأقبل إليها، فإذا هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان يعرفها قبل أن ينزل الحجاب، فماذا صنع هذا الرجل؟
هذا الرجل أناخ البعير، ولم يتكلم بأي كلمة احتراماً لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يريد أن يتكلم مع زوجته في مثل هذا المكان، أناخ البعير، ووضع رجله على ساق البعير وعضده، فركبت عائشة رضي الله عنها، فأخذ الزمام وجعل يقود البعير، ليجعل عائشة خلفه.
فلما أقبل على القوم تكلَّم المنافقون، ورأوا أن هذه فرصة، وقالوا في عائشة ما هم فيه كاذبون؛ امرأة في سفر مع رجل تتأخر عن القوم، فصاروا يتكلمون في عِرض عائشة، وهم لا يريدون عِرض عائشة، ولا تهمهم فتاة عند زوجها، الذي يهمهم تدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة:30).
فجعلوا يتكلمون، وكان من حكمة الله عزّ وجلّّ أن عائشة لما قدموا المدينة مرضت وبقيت في بيتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها، ولم تر منه ما كانت تراه في السابق، كان يمر ويقول : (( كيف تيكم)) ، يعني : كيف هذه؟ لا يسأل ويلح ويقول: كيف هي اليوم؟ عساها أحسن من أمس، وما أشبه ذلك، ولكنه يقول هذه الكلمة؛ لأن كلام المنافقين قد شاع في المدينة وصار عند بعض المؤمنين تردد، والرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يشك في أهله، ويرى أن الله عزَّ وجلَّ يأبى بحكمته أن يدنِّس فراش نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن ليصدق بهذا أبداً، لكن مع كثرة الكلام وكثرة القرع وكثرة الإرجاف، تردد الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر، وبعد أن مضى نحو شهر خرجت عائشة رضي الله عنها وخالتها أم مسطح بن أثاثة، خرجت تقضي حاجتها، وكانوا في هذا الوقت ليس عندهم مراحيض في البيوت، إذا أراد الواحد أن يقضي حاجته خرج إلى الخلاء وبحث عن مكانٍ مطمئنٍ نازلٍ وقضى فيه حاجته.
فخرجت عائشة مع خالتها أم مسطح إلى مكان قضاء الحاجة، فعثرت أم مسطح، فقالت : تعس مسطح، تقول أم مسطح: تعس مسطح فاستغربت عائشة كيف تقول لرجل من المهاجرين شهد بدراً تقول فيه: تعس مسطح، فقالت: لم تقولين هذا الكلام؟ لأن معنى تعس خسر وهلك، فقالت : أما علمت بكذا وكذا وكذا، وأخبرتها بقصة الإفك، وإن مسطحاً كان ممن صدَّقوا تلك الفرية، فازدادت عائشة رضي الله عنها مرضاً إلى مرضها، وصارت تبكي ليلاً ونهاراً لا يرقأ لها دمع ، ولا تهنأ بعيش.
وبينما الأمر كذلك حتى انتهى نفاق المنافقين إلى الرأس، أنزل الله فيها هذه الآيات الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )(النور: 11) يعني طائفة منكم ( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) سبحان الله!! هذا الإفك والرمي بالفاحشة لا نحسبه شراً ؟ نعم لا نحسبه شراً، بل هو خير لكم؛ لأنه حصل به من تمحيص الذنوب ورفعة المقامات، والدفاع عن عرض الرسول عليه الصلاة والسلام وفراشه ما هو خير.
( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإثْمِ) كل واحد تكلم في هذا الأمر له ما اكتسب من الإثم ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(النور: 11).
أعظمهم إثماً الذي قاد هذه الفتنة وأوقد نارها والعياذ بالله.
ثم ساق الله تعالى الآيات إلى قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15).
وكان الورع والتقى ألا يتكلموا في هذا الأمر، وأن يسألوا أنفسهم: من أين مصدره؟ من المنافقين الذين هم أكذب عباد الله.
المنافقون أكذب الناس، ولهذا من علامات النفاق الكذب، استمعوا إلى قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) شهادة مؤكدة بإنَّ واللام. قال الله عز وجلَّ (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقاً إنك رسوله ومع ذلك: (واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1) .
شهادة بشهادة أيهما أعظم؛ وقولهم : ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه)ِ أم قول الله: (واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ؟ لا شك أن قول الله أصدق، فهو يشهد عزَّ وجلَّ: (ُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) في قولهم ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) .
هذه الفاحشة التي أشيعت مصدرها من المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، لكنه الخبيث لا يتكلم صراحة، يأتي إلى الناس ويقول: أما سمعتم ما قيل في عائشة، قيل كذا وكذا.
وهناك أُناس من المؤمنين تكلَّموا بهذا صراحة، منهم مسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وحمنة بنت جحش ، تكلموا لأنهم بشر، وأقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة وهو ابن خالته، لكنه أقسم ألا ينفق عليه؛ لا لأنه قال في ابنته؛ بل قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق.
فماذا قال الله عزَّ وجلَّ؟ قال الله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )(النور: 22).
(وَلا يَأْتَلِ ) إي لا يحلف، والمراد بهذا من؟ أبو بكر (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه) من يعني بأولي القربة واليتامى والمساكين والمهاجرين؟ يعني بذلك مسطحاً، فلا ينبغي لأهل الفضل أمثال أبي بكر رضي الله عنه أن يمتنعوا عن الإنفاق على أولي القربى والمساكين والمهاجرين، وإن هم أخطئوا في بعض الأمور.
( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور:22) لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: بلى والله، نحب أن يغفر الله لنا ، فرد النفقة على مسطح.
هذا الامتثال العظيم، وإلا فرجل يقول في ابنته ما يقول بل في رسول الله ما يقول، فامتثل أبو بكر هذا الامتثال العظيم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلد مسطح وحسان وحمنة، كل واحد منهم ثمانين جلدة حد القذف، ولكن لم يأمر بجلد عبد الله بن أبي؛ لأنه خبيث ما كان يصرح، وأن الحد تطهير للمحدود، وعبد الله بن أبي ليس أهلاً للطهارة؛ لأنه رجس نجس خبيث.
فالحاصل أن من الورع أن الإنسان لا يتكلم إلا بما يعلم، وهذا الاستشهاد الذي استشهد به المؤلف ينطبق تماماً على زماننا الآن، ما أكثر الذين يتكلمون في ولاة الأمور بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في العلماء بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في طلبة العلم بغير علم، ما أكثر الذين يتكلمون في المحسنين من ذوي الأموال بغير علم.
فليس عند أكثر الناس ورع، يتكلم الإنسان بما جاء على لسانه من غير أن يتحقق، وهذا من الظلم والعدوان على من تكلم فيه، أن يتكلم فيه بغير علم. لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الغيبة إنها (( ذكرك أخاك بما يكره)) قالوا: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) .
نسأل الله أن يهدي ألسنتنا وألسنتكم من الكذب وقول الزور، وأن يعصمنا من الزلل ويعفو عنا إنه جواد كريم.

الموضوع التالي


1/588- وعن النُعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قالَ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: (( إن الحلالَ بينٌ ، وإن الحرام بينٌ، وبينهما مُشتبِهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناسِ، فمن اتقى الشبُهاتِ؛ استبرا لدينه وعرضهِ، ومن وقع في الشبهاتِ؛ وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يُوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلّ ملكٍ حمى، ألاَ وإنَّ حمى الله محارمهُ، الاَ وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت؛ صلح الجسدُ كلهُ، وإذا فسدت: فسد الجسد كلهُ: ألا وهيَ القلبُ)) متفق عليه. وروياهُ من طرقٍ بالفاظٍ مُتقاربة.

الموضوع السابق


2/586- وعن انسٍ رضي الله عنهُ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يتمنين أحدكم الموت لضرً أصابهُ، فإن كان لابد فاعلاً، فليقل : اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) متفق عليه. 3/587- وعن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعودُهُ وقد أكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا، ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا مَا لاَ نجدُ لهُ موضعاً إلا التُراب، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعُو بالموت لدعوتُ به، ثم أتيناه مرةً أخرى وهو يبني حائطاً لهُ، فقال: إن المسلم ليُؤجرُ في كل شيءً ينفقهُ إلا في شيء يجعلهُ في هذا الترابٍ. متفق عليه، وهذا لفظ وراية البخاري.