1508 - وعن أنس رضي الله عنه: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا، صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله رواه البخاري من طرق، وفي بعضها أن الرجلين أسيد بن حُضير، وعباد بن بشر رضي الله عنهما.
 
هذان حديثان ذكره النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب كرمات الأولياء وفضلهم وهو حديث الرجلين: أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة وكان في ذات الوقت ليس في الأسواق أنوار بل ولا في البيوت مصابيح، فخرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، الليلة المظلمة، فجعل الله تعالى بين أيديهما مثل المصباحين يعني مثل

لمبة الكهرباء تضيء لهما الطريق، وليس هذا من فعلهما ولا بسبب منهما ولكن الله تعالى خلق نوراً يسعى بين أيديهما حتى تفرقا، وتفرق النور مع كل واحد منهما، حتى بلغا بيوتهما، وهذه كرامة من الله عز وجل، من كرامة الله تعالى أنه يضيء للعبد الطريق، الطريق الحسي وفائدته الحسية، فإن هذين الرجلين رضي الله عنهما وأرضاهما مشيا في إضاءة ونور بينما الأسواق ليس فيها إضاءة ولا أنوار والليلة مظلمة، فقيض الله لهما هذا النور.
هناك أيضًا نور معنوي يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن كرامة له، تجد بعض العلماء يفتح الله عليه من العلوم العظيمة الواسعة في كل فن ويرزقه الفهم والحفظ والمجادلة، ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، فإن هذا الرجل من الله به على الأمة الإسلامية، ومازالت الأمة الإسلامية تنتفع بكتبه إلى يومنا هذا وقد توفي رحمه الله سنة 728هـ يعني منذ مئات السنين والأمة تنتفع بكتبه، وقد أعطاه الله تعالى علمًا عظيمًا، وفهمًا ثاقبًا، وقوة في المجادلة ولا أحد يستطيع أن يجادله في شيء أبداً، ما قام له أحد حتى إنه رحمه الله قال: أي إنسان يجادلني بالباطل ويستدل بآية أو حديث فإنني أنا سأجعل الآية والحديث دليلاً عليه وليست دليلاً له.
وهذا من نعمة الله عز وجل أن الله تعالى يعطي الإنسان قدرة إلى هذا الحد، وحتى إنه يتكلم مع المجادلين ويناظرهم ثم يقول لهم: انظروا إلى قول فلان من زعمائهم في كتابه الفلاني مع أن أتباع هذا الرجل الذي يجادلون فيه شيخ الإسلام لا يعلمون عن كتبه شيئاً وهو يعلم ما في كتبه، ومناظرته في العقيدة الواسطية مع القاضي المالكي عجيبة،

كان القاضي المالكي يحاول أن يجعل السلطان يبطش به؛ لكنه هو يقول: هذا لا يمكن ولا يجري على مذهبكم وأنتم أيها المالكية قلتم كذا وكذا.
ولا يمكن أن يدين للوالي في هذا الذي ذكرت بناء على مذهبكم، فيبهت الرجل، كيف يعرف من مذهبنا ما لا نعلم.
وله أيضًا رحمه الله في كل فن يد واسعة، كان عالماً في النحو والعربية والصرف والبلاغة.
حتى إن تلميذه ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد بحث بحثًا دقيقًا جدًا جدًا في الفرق بين مدح وحمد وكيف تفرق اللغة العربية بين المعاني في الكلمات بتقديم حرف أو تأخيره، وأتى ببحث عجيب، ثم قال: وكان شيخنا رحمه الله إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب، يعني في مسألة اللغة والصرف، ولكنه كما قال الشاعر:
تألق البرق نجديا فقلت له ...
إليك عني فإني عنك مشغول
يعني شيخ الإسلام مشتغل بما هو أكبر من مسألة نحوية أو بلاغية أو صرفية، فهو مشغول بأكبر من هذا، وفي يوم من الأيام قدم مصر وكان فيها أبو حيان اللغوي المشهور والمفسر من الكبير في هذا الباب، وكان أبو حيان يمدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله في مدحه قصيدة عصماء، منها قوله: قام ابن تيمية في
نشر الدين نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذا عصت مضر
وسيد تيم هو أبو بكر رضي الله عنه، يعني أنه قام في

الإسلام في محنة الإسلام والبدع مقام أبي بكر في يوم المحن ومدحه في قصيدة عصماء، فلما قدم مصر، جاء الناس إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستفيدون من علمه ويناقشونه وكان من بينهم أبو حيان، فناقشه في مسألة نحوية، لأن أبا حيان بحر محيط في النحو ناقشه في مسألة نحوية فقال له شيخ الإسلام: هذا غلط من كلام العرب، فقال له: كيف وسيبويه إمام النحويين ذكر هذا في كتابه، فقال له شيخ الإسلام: وهل سيبويه نبي نحو يجب علينا أن نتبعه؟ لقد أخطأ سيبويه في كتابه في أكثر من ثمانين موضعًا لا تعلمه أنت ولا سيبويه، سيبويه عند النحويين مثل البخاري عند أهل الحديث، فتعجب أبو حيان، كيف يقول هذا الكلام، ثم إنه ذهب عنه فأنشأ فيه قصيدة يذمه والعياذ بالله، بالأمس يمدحه والآن يذمه.
المهم أني أقول: إذا كان الله تعالى يعطي بالكرامات نورًا حسيًا يستضيء به الإنسان كما حدث لهذين الصحابيين، فكذلك يعطي الله نورًا معنويًا يقذفه في قلب العبد المؤمن، نسأل الله يقذف في قلوبنا وإياكم نورًا، يستطيع الإنسان به أن يتكلم في شريعة الله وكأن النصوص بين عينيه، وهذا من نعمة الله على العبد، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوليائه المتقين وعباده الصالحين

الموضوع التالي


1509 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا سرية، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة، بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام فاقتصوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه، لجأوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم، فقالوا: انزلوا، فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر. اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب، وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى فجروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب، وزيد بن الدثنة، حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبًا، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته، فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. وقال: فلست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وكان خبيب هو سن لكل مسلم صبراً الصلاة وأخبر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف وكان قتل رجلاً من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً رواه البخاري. قوله: الهداة: موضع، والظلة: السحاب، والدبر: النحل. وقوله: اقتلهم بددا بكسر الباء وفتحها، فمن كسر، قال: هو جمع بدة بكسر الباء وهو النصيب، ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل واحد منهم نصيب، ومن فتح، فقال: معناه: متفرقين في القتل واحدًا بعد واحد من التبديد. وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة سبقت في مواضعها من هذا الكتاب، منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر، ومنها حديث جريج، وحديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة، وحديث الرجل الذي سمع صوتًا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان، وغير ذلك والدلائل في الباب كثيرة مشورة، وبالله التوفيق.