تلاوة الحمين لحكاية الفأر والحمامة المطوقة، وهي مثالٌ لتعاونِ الإخوان
 
حكاية الفأر والحمامة المطوقة، وهي مثالٌ لتعاونِ الإخوان،>/a>




حَكَى أريبٌ عاقِلُ لِكُلِّ فَضلٍ ناقلُ -- عَن سِرب طَيرٍ سارِبٍ مِن الحمامِ الراعبي
بَكَّرَ يوماً سَحَرا وسَارَ حَتَّى اسحَرا -- في طَلَبِ المَعاشِ وهوَ رَبيطُ جاشِ
فابصروا على الثَرى حَبّا مُنَقّا مُنثَرا -- فاحمَدوا الصَباحا واستَيقَنوا النَّجاحا
واسرعوا إليهِ وأقبلوا عَليهِ -- حتّى إذا ما اصطفوا حِذاءَهُ أسَفّوا
فَصاحَ مِنهُم حازِم لِنُصحِهِم مُلازِم -- مَهلاً فَكَم مِن عَجَلة ادنَت لِحَيّ اجَلَه
تَمَهَّلوا لا تَقَعوا وانصِتوا لي واسمَعوا --
آليتُكُم بالرَّبِ ما نَثْرُ هذا الحَبِّ في هذه الفلاتِ الا لِخَطبٍ عاتي
إنّي أرى حِبالاً قد ضُمِّنت وَبالا -- وهذهِ الشِباكُ في ضِمنِها هَلاكُ
فَكابِدوا المَجاعَةَ وأنتَظِروني ساعة -- حتى أرى و أختبر والفَوزُ حَظُّ المُصطَبِر
فأعرَضوا عَن قَولِه واستَضحَكوا مِن حَولِه -- قالوا وقد غَطَىّ القَدْرُ للسَّمْعَ مِنهُم والبَصَر
لَيسَ على الحَقِّ مِرا، حَبٌّ مُعَدٌّ لِلقِرا -- أُلقيّ في التُرابِ للأجرِ والثَوابِ
ما فيهِ مِن مَحذورِ لِجائعٍ مَضرورِ-- اغدوا على الغداء فَالجوعُ شَرُّ داءِ
فَسَقَطوا جَميعا لِلَقطِهِ سَريعا -- وما دَروا أن الرَدى أكمَنَ في ذاكَ الغدا
فوَقَعوا في الشَبَكَة وأيقَنوا بِالهَلَكَة -- ونَدموا وما النَّدَم مُجدٍ وقَد زَلَّ القَدَم
فأخذوا في الخَبطِ لِحَلِّ ذاكَ الرَبطِ -- فالتَوت الشِباكُ والتفَّتِ الأشراكُ
والفِكرُ في الفِكاكِ مِن وَرطَةِ الهلاكِ -- أولى مِن المَلامِ وكَثرَةِ الكَلامِ
وما يُفيدُ اللاحي في القَدَرِ المُتاحِ -- فاحتَل على الخَلاصِ كَحيلَةٍ للعَاصِ
فقَالَ ذاك الحازمُ طَوع النَّصيحِ لازمُ فأن أطعتُم نُصحي -- ظَفِرتُم بالنُّجحِ
وإنْ عَصَيتُم أمري خاطَرتُم بالعُمرِ
فقال كُلٌّ هات فكركَ في النَجاةِ جَميعُنا مُطيعُ -- وكُلّنا سَميعوا
ولَيسَ كُلّ وقت يزولُ عقل الثبت
فقال لا ترتبكوا فتستمر الشبك -- واتفقوا في الهمّة لهذه الملمة
حتى تطيروا بالشرك وتأمنوا من الدرك -- ثم الخلاص بعد لكم علي وعد
فقبلوا مقاله وامتثلوا ما قاله -- واجتمعوا في الحركة وأرتفعوا بالشبكة
فقال سيروا عجلا سيراً يفوت الأجلا -- ولا تملوا فالملل يعوقُ فالخطب جلل
فأمّهم وراحوا كأنهم رياح -- وأقبل الحبال في مشيه يختال
يحسب أن البركة قد وقعت في الشبكة -- فأبصر الحماما قد حلقت اماما
وقلّت الحبالة أاوقعت خياله -- فعض غيضاً كفه على ذهاب الكفه
فراح يعدو خلفها يرجو اللحاق سفها -- حتى إذا ما يئسا عادَ وهو مبتئسا
وأقبل الحمام كأنه غمام -- على فلاة قفر من الأنام صفر
فقالت الحمامة بشراكم السلامة -- هذا مقام الأمن من كل خوف يعني
فان أردتم فقعوا لا يعتريكم فزع -- فهذه المومات لنا بها النجات
ولي بها خليل إحسانه جزيل
ينعم بالفكاك من ربقة الشباك -- فلجأوا إليها ووقعوا عليها
فنادت الحمامة أقبل أبا أمامة -- فأقبلت فويرة كأنها نويرة
تقول من ينادي أبي بهذا الوادي -- قال لها المطوق أنا الخليل الشيق
قولي له فليخرج وآذنيه بالمجي -- فرجعت وأقبلا فار يهد الجبلا
فأبصر المطوقا فضمه واعتنقا -- وقال أهلا بالفتى ومرحبا بمن أتى
قدمت خير مقدم على الصديق الأقدمي -- فادخل بيمن داري وشرفن مقداري
وإنزل برحب ودعة وجفنة مدعدعة -- فقال كيف أنعم ام كيف يهني المطعم
وأسرتي في الأسر يشكون كل عسر -- فقال مرني ائتمر عداك نحس مستمر
قال اقرض الحباله قرضا بلا ملالة -- وحل قيد أسرهم وفكهم من أسرهم
قال أمرت طائعا وخادما مطاوعا -- فقرض الشباكا وقطع الاشراكا
وخلص الحماما وقد رأى الحماما -- فأعلنوا بحمده واعترفوا بمجده
فقال قروا عينا ولا شكوتم أينا -- وقدم الحبوبا للأكل والمشروبا
وقام بالضيافة بالبشر واللطافة -- أضافهم ثلاثا من بعد ما أغاثا
فقال ذاك الخل الخير لا يمل -- فقت أبا أمامه جودا على إبن مامة
وجيت بالصداقة بالصدق فوق الطاقة -- البستنا نطاقا وزدتنا اطواقا
من فعلك الجميل وفصلك الجزيل -- مثلك من يدخر لريب دهر يحذر
وترتجيه الصحب إن عز يوم خطب -- فاذن بالإنصراف لنا بلا تجافي
دام لك الإنعام ما غرد الحمام -- ودمت مشكور النعم مارن شاد بنغم
فقال ذاك الفأر جفا الصديق عار -- ولست أرضى بعدكم لا ذقت يوماً فقدكم
ولا أرى خلافكم إن رمتم انصرافكم -- عمتكم السلامة في الظعن والإقامة
فودعوا وانصرفوا والدمع منهم يذرف -- فأعجب لهذا المثل المغرب المؤثل
أوردته ليحتذى إذا عرى الخل اذى.


كتاب كليلة و دمنة