وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" متفق عليه
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" متفق عليه
من حديثه أي أبي هريرة قال ابن عبد البر إنه جاء عن بضع وعشرين نفسا من الصحابة والحديث دليل على ثبوت نسب الولد بالفراش من الأب واختلف العلماء في معنى الفراش فذهب الجمهور إلى أنه اسم للمرأة وقد يعبر به عن حالة الافتراش وذهب أبو حنيفة إلى أنه اسم للزوج ثم اختلفوا بماذا يثبت فعند الجمهور إنما يثبت للحرة بإمكان الوطء في نكاح صحيح أو فاسد وهو مذهب الهادوية و الشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة أنه يثبت بنفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل ولو طلقها عقيبه في المجلس وذهب ابن تيمية إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق واختاره تلميذه ابن القيم قال وهل يعد أهل اللغة وأهل العرف المرأة فراشا قبل البناء بها وكيف تأتي
(3/210)

الشريعة بإلحاق نسب من لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها لمجرد إمكان ذلك وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق قال في المنار هذا هو المتيقن ومن أين لنا الحكم بالدخول بمجرد الامكان فإن غايته أنه مشكوك فيه ونحن متعبدون في جميع الأحكام بعلم أو ظن والممكن أعم من المظنون والعجب من تطبيق الجمهور بالحكم مع الشك فظهر لك قوة كلام ابن تيمية وهو رواية عن أحمد هذا في ثبوت فراش الحرة وأما ثبوت فراش الأمة فظاهر الحديث شموله له وأنه يثبت الفراش للأمة بالوطء إذا كانت مملوكة للوطىء أو في شبهة ملك إذا اعترف السيد أو ثبت بوجه والحديث وارد في الأمة ولفظه في رواية عائشة قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة" فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الولد لفراش زمعة للوليدة المذكورة فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة وهذا قول الجمهور وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخعي وأحمد وإسحاق وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يثبت الفراش للأمة إلا بدعوى الولد ولا يكفي الإقرار بالوطء فإن لم يدعه فلا نسب له وكان ملكا لمالك الأمة وإذا ثبت فراشها بدعوى أول ولد منها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد وإن لم يدع المالك ذلك قالوا وذلك للفرق بين الحرة والأمة فإن الحرة تراد للاستفراش والوطء بخلاف ملك اليمين فإن ذلك تابع وأغلب المنافع غيره وأجيب بأن الكلام في الأمة التي اتخذت للوطء فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها فإذا عرف الوطء كانت فراشا ولا يحتاج إلى استلحاق والحديث دال لذلك فإنه لما قال عبد بن زمعة ولد على فراش أبي ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة صاحب الفراش ولم ينظر إلى الشبه البين الذي فيه المخالفة للملحوق به وتأولت الحنفية والهادوية حديث أبي هريرة بتأويلات كثيرة وزعموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحق الغلام المتنازع فيه بنسب زمعة واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه وأجيب بأنه أمرها بالاحتجاب منه على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة وذلك لما رآه صلى الله عليه وسلم في الولد من الشبه بعتبة بن أبي وقاص وللمالكية هنا مسلك آخر فقالوا الحديث دل على مشروعية حكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطي أحكاما فإن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في إثبات النسب وروعي الشبه البين بعتبة في أمر سودة بالاحتجاب قالوا وهذا أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار بين أصلين
(3/211)

فألحق بأحدهما فقط فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه فيكون هذا الحكم وهو إثبات النسب بالنظر إلى ما يجب للمدعي من أحكام البنوة ثابتا وبالنظر إلى ما يتعلق بالغير من النظر إلى المحارم غير ثابت قالوا ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم إلى أنه لا يحل أن يتزوج بنته من الزنا وإن كان لها حكم الأجنبية وقد اعترض هذا ابن دقيق العيد بما ليس بناهض وفي الحديث دليل على أن لغير الأب أن يستلحق الولد فإن عبد بن زمعة استلحق أخاه بإقراره بأن الفراش لأبيه وظاهر الرواية أن ذلك يصح وإن لم يصدقه الورثة فإن سودة لم يذكر منها تصديق ولا إنكار إلا أن يقال إن سكوتها قائم مقام الإقرار وفي المسألة قولان الأول أنه إذا كان المستلحق غير الأب ولا وارث غيره وذلك كأن يستلحق الجد ولا وارث سواه صح إقراره وثبت نسب المقر به وكذلك إن كان المستلحق بعض الورثة وصدقه الباقون والأصل في ذلك أن من حاز المال ثبت النسب بإقراره واحدا كان أو جماعة وهذا مذهب أحمد والشافعي لأن الورثة قاموا مقام الميت وحلوا محله الثاني للهادوية أنه لا يصح الاستلحاق من غير الأب وإنما المقر به يشارك المقر في الإرث دون النسب ولكن قوله صلى الله عليه وسلم لعبد "هو أخوك" كما أخرجه البخاري دليل ثبوت النسب في ذلك ثم اختلف القائلون بلحوق النسب بإقرار غير الأب هل هو إقرار خلافة ونيابة عن الميت فلا يشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه أو هو إقرار شهادة فتعتبر فيه أهلية الشهادة فقالت الشافعية و أحمد إنه إقرار خلافة ونيابة وقال المالكية إنه إقرار شهادة واستدل الهادوية والحنفية بالحديث على عدم ثبوت النسب بالقيافة لقوله الولد للفراش قالوا ومثل هذا التركيب يفيد الحصر ولأنه لو ثبت بالقيافة لكانت قد حصلت بما رآه من شبه المدعى بعتبة ولم يحكم به له بل حكم به لغيره وذهب الشافعي وغيره إلى ثبوته بالقيافة إلا أنه إنما يثبت بها فيما حصل من وطأين محرمين كالمشتري والبائع يطآن الجارية في طهر قبل استبراء واستدلوا بما أخرجه الشيخان من استبشاره صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي وقد رأى قدمي أسامة بن زيد وزيد "إن هذه الأقدام بعضها من بعض" فاستبشر صلى الله عليه وسلم بقوله وقرره على قيافته وسيأتي الكلام فيه في آخر باب الدعاوى وبما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم في قصة اللعان "إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان أو على صفة كذا فهو لفلان" فإنه دليل الإلحاق بالقيافة ولكن منعته الأيمان عن الإلحاق فدل على أن القيافة مقتض لكنه عارض العمل بها المانع وبأنه صلى الله عليه وسلم قال لأم سليم لما قالت أو تحتلم المرأة فمن أين يكون الشبه ولأنه أمر سودة بالاحتجاب كما سلف لما رأى من الشبه وبأنه قال للذي ذكر له أن امرأته أتت بولد على غير لونه لعله نزعه عرق فإنه ملاحظة للشبه ولكنه لا حكم للقيافة مع ثبوت الفراش في ثبوت النسب وقد أجاب النفات للقيافة بأجوبة لا تخلو عن تكلف والحكم الشرعي يثبته الدليل الظاهر والتكلف لرد الظواهر من الأدلة محاماة عن المذهب ليس من شأن المتبع لما جاء عن الله وعن رسوله
(3/212)

صلى الله عليه وسلم وأما الحصر في حديث "الولد للفراش" فنعم هو لا يكون الولد إلا للفراش مع ثبوته والكلام مع انتفائه ولأنه قد يكون حصراً وهو غالب ما يأتي من الحصر فإن الحصر الحقيقي قليل فلا يقال قد رجعتم إلى ما ذممتم من التأويل وأما قوله "وللعاهر" أي الزاني "الحجر" فالمراد له الخيبة والحرمان وقيل له الرمي بالحجارة إلا أنه لا يخفى أنه يقصر الحديث على الزاني المحصن والحديث عام
(3/213)