أولاً: تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر:
 
أولاً: تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر:

كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عمر بن الخطاب وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، فكانت للآيات الكريمة التي سمعها عمر من رسول الله صلى الله عليه و سلم مباشرة أثرها في صياغة شخصية الفاروق الإسلامية، فقد طهّرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته .
فقد عرف الفاروق من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي صلى الله عليه و سلم يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة فقد حرص صلى الله عليه و سلم أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركاً أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة الفاروق إلى الله، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه و سلم.
فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه ( واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ).
وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) (الأعراف،آية:54).
وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود دقت أو عظمت ظهرت أو خفيت وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) (النحل،آية:53).
وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن.
وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18) (ق، آية:18).
وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطنا، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً، ولا يسند إليه شيء: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) .
وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ(196) (الأعراف،آية:196).
وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه فلا يشركوا به شيئاً بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66) (الزمر، آية:66).
وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن الكريم .
وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) (فصلت:9-12).
وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24) (يونس،آية:24).
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة التي وصفتها، فأصبح حاله ممن قال الله تعالى فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) (السجدة،آية:16،17).
وأما تصوره للنار فقد استمده من القرآن الكريم، فأصبح هذا التصور رادعاً له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله فيرى المتتبع لسيرة الفاروق عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، فقد خرج رضي الله عنه ذات ليلة في خلافته يعسُّ بالمدينة، فمرّ بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائماً يصلي، فوقف يسمع قراءته، فقرأ: وَالطُّورِ(1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ(2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ(3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ(4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ(6) إلى أن يبلغ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7) (الطور،آية:7). قال: قسم ورب الكعبة حق. فنزل عن حماره، فاستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمرض شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61) (يونس، آية:61). وأن الله قد كتب كل شيء كائن إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12) (يس،آية:12). وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44) (فاطر،آية:44). وأن الله خالق لكل شيء ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) (الأنعام،آية:102).
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة ظهرت في حياته وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة فقال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأنسَانِ مِنْ طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(9) (السجدة،آية:7-9).وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده، وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز وسخر الله له ما في السماء والأرض، وفضله الله على كثير من خلقه، وكرمه بإرساله الرسل له، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضاه ويكون ذلك باتباع النبي صلى الله عليه و سلم الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97) (النحل،آية:97).
وعرف عمر رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعيناً بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، كما سترى من سيرته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم؛ أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة، وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة لقول الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلأنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53) (الإسراء،آية:53). وسار على منهج رسول الله في تزكية أصحابه لأرواحهم وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات وتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن الكريم.
لقد أكرم المولى عز وجل عمر بن الخطاب بالإسلام الذي قدم له عقيدة صحيحة صافية خلفت عقيدته الأولى، وقضت في نفسه عليها فانهارت أركان الوثنية، فلا زلفى لوثن، ولا بنات لله، ولا صهر بين الجن والله، ولا كهانة تحدد للمجتمع مساره، وتقذف به في تيه التشاؤم والطيرة ولا عدم بعد الموت ، انتهى ذلك كله وخلفته عقيدة الإيمان بالله وحده مصفَّاة من الشرك، والولد والكهانة والعدم بعد الحياة الدنيا، ليحل الإيمان بآخرة ينتهي إليها عمل الإنسان في تقويم مجزي عليه، انتهى عبث الجاهلية في حياة بلا بعث ولا مسؤولية أمام الديان وخلفتها عقيدة الإيمان باليوم الآخر ومسؤولية الجزاء وانصهر عمر بكليته في هذا الدين وأصبح الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وعبد الله وحده في إحسان كأنما يراه ، وتربى عمر على القرآن الكريم وتنقل به من تشريع إلى آداب، ومن تاريخ إلى حكمة، في عطاء مسترسل كريم، مع توفيق من الله تعالى له في العيش مع القرآن الكريم الذي أثر في عقله وقلبه ونفسه وروحه وانعكست ثمار تلك المعايشة على جوارحه، وكان سبب ذلك – بعد توفيق الله له – تتلمذه على يدي رسول الله(
).