المبحث الثاني: ملازمته لرسول الله صلى الله عليه و سلم:
 
المبحث الثاني: ملازمته لرسول الله صلى الله عليه و سلم:


كان عمر رضي الله عنه واحداً من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعه الأمي، وهذا دليل على شغفه بالعلم منذ صغره، وسعيه ليكون واحداً من القلة القليلة، الذين محوا أميتهم، وهذبوا أنفسهم، وتبوأوا مكانة مرموقة في عصر الرسالة، لمجموعة مقومات، لعل منها إلمامه بالقراءة والكتابة وهو حدث له قيمته آنذاك وقد تلقى عمر دروسه الأولى، وتعلم القراءة والكتابة على يدي حرب بن أمية والد أبي سفيان ، وقد أهلته هذه الميزة، لأن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك، وإن كنا نجزم أن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول صلى الله عليه و سلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك .
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى كل دارس لتاريخ عمر وحياته أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي غذى المواهب وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ونعني به القرآن الكريم، وقد حرص عمر منذ أسلم على حفظ القرآن وفهمه وتأمله، وظل ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول صلى الله عليه و سلم بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه ، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له صلى الله عليه و سلم وكانت نقطة البدء في تربية عمر هي لقاءه برسول الله صلى الله عليه و سلم , فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه و سلم فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة، كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه و سلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه و سلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تحب، وتحاط من الناس بالاعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقاً بدافع الاعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه و سلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحداً في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه ، لقد حصل للصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، يقول سيد قطب عن تلك التزكية: إنها لتزكية، وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه و سلم. تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، وتطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة، ولحياة الواقع، تزكية ترتفع بالانسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ العلوي الكريم .
لقد تتلمذ عمر رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ(164) (آل عمران،آية:164).
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته، وسلمه وأصبح لعمر رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، التي أثرت في شخصية عمر وفقهه ولازم رسول الله صلى الله عليه و سلم واستمع من رسول الله وتلقى عنه وكان إذا جلس في مجلس النبوة لم يترك المجلس حتى ينفض، كما كان حريصاً على أن يسأل الرسولصلى الله عليه و سلم عن كل ما تجيش به نفسه، أو يشغل خاطره ، لقد استمد من رسول الله علماً وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم وخصه رسول الله صلى الله عليه و سلم برعايته، وشمله بتسديده، ولقد شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعلم، فقد قال صلى الله عليه و سلم: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر.
قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم .
قال ابن حجر: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول
الله صلى الله عليه و سلم .
وهذه المعرفة لا يمكن تَأتِّيها إلا لمن كان راسخ القدم في التزود بما يعينه على فهم كتاب الله، وسنة نبيه، وسبيله في ذلك: التعمّق في فهم اللغة وآدابها، والتمرس في معرفة أساليبها، والتزود في كل ما يساعد على فهمها من معارف وخبرات، وكذلك كان عمر رضي الله عنه ، ولقد جمع بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين عمر حب شديد، والحب عامل هام في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية والثقافية، لما له من عطاء متجدد وعمر قد أحب رسول الله صلى الله عليه و سلم حباً جماً، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر دعوته، فقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين . فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر .
واستأذن عمر يوماً إلى عمرة فقال له صلى الله عليه و سلم: (( لا تنسنا يا أخي في دعائك )). فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي .
وهذا الحب السامي الشريف هو الذي جعل عمر يلازم الرسول صلى الله عليه و سلم في جميع غزواته، وقد أمده ذلك بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، كما أن ملازمته للرسول صلى الله عليه و سلم وكثرة تحدثه معه، قد طبعه على البلاغة والبيان والفصاحة وطلاقة اللسان، والتفنن في أوجه القول وفي النقاط
القادمة سنبين بإذن الله تعالى مواقفه في الميادين الجهادية مع رسول الله، وبعض الصور من حياته الاجتماعية بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه و سلم.