ثانياً: حياته مع أسرته:
 
ثانياً: حياته مع أسرته:

قال عمر رضي الله عنه: إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية ، ولذلك كان رضي الله عنه شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فقد كان يعلم أن الأبصار مشرئبة نحوه وطامحة إليه، وأنه لا جدوى إن قسا على نفسه ورتع أهله فحوسب عنهم في الآخرة، ولم ترحمه ألسنة الخلائق في الدنيا فكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه وهذه بعض المواقف:

1- المرافق العامة:
منع عمر رضي الله عنه أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من الناس، خوفاً من أن يحابي أهله به، قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ … بخ … ابن أمير المؤمنين، قال: ما هذه الإبل؟ قال، قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى ابتغى ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين .

2- محاسبته لابنه عبد الله لما اشترى فيء جلولاء:
قال عبد الله بن عمر: شهدت جلولاء – إحدى المعارك ببلاد فارس – فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً، فلما قدمت على عمر قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده، أكنت مفتدياً به؟ قلت والله ما من شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم , وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه، وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسؤول وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدرهم درهم، قال: ثم دعا التجار فابتاعوه منه بأربعمائة ألف درهم، فدفع إلي ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه .

3- منع جرِّ المنافع بسبب صلة القربى به:
عن أسلم قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين وأسلفكماه فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، ففعلاً، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال. فلما قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا.فقال عمر: أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، لو هلك المال أو نقص لضّمناه. فقال: أديا المال. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ((شركة)) . فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. قالوا: هو أول قراض في الإسلام.

4- تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في العطاء:
كان عمر رضي الله عنه يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت فرضت لأُسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل مالم يكن لك! وما كان له من الفضل مالم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منك !!

5- أنفقت عليك شهراً:
قال عاصم بن عمر: أرسل إليّ عمر يرفأ (مولاه) فأتيته – وهو جالسٌ في المسجد فحمد الله عز وجل – وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لم أكن أرى شيئاً من هذا المال يحل لي قبل أن أليه إلا بحقه، ثم ما كان أحرم علي منه حين وليته، فعاد أمانتي، وإني كنت أنفقت عليك من مال الله شهراً، فلست بزائدك عليه، وإني أعطيت ثمرك بالعالية منحة، فخذ ثمنه، ثم ائت رجلاً من تجار قومك فكن إلى جانبه، فإذا ابتاع شيئاً فاستشركه وأنفق عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت.
6- خذه يا معيقيب فاجعله في بيت المال:
قال معيقيب: أرسل إليَّ عمر رضي الله عنه مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصماً … فقال لي: اتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين، فانتفقهم ((سألهم النفقة))، فأعطوه آنية وفضة ومتاعاً، وسيفاً محلى. فقال: عاصم: ما فعلتُ، إنما قدمت على ناس من قومي، فأعطوني هذا. فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله في بيت المال .
فهذا مثل من التحري في المال الذي يكتسبه الإنسان عن طريق جاهه، ومنصبه، فحيث شعر أمير المؤمنين عمر بأنّ ابنه عاصماً قد اكتسب هذا المال لكونه ابن أمير المؤمنين تحرج في إبقاء ذلك المال عنده لكونه اكتسبه بغير جهده الخاص فدخل ذلك في مجال الشبهات .

7- عاتكة زوجة عمر والمسك:
قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمّ أزن لك، قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه – وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلاً على المسلمين ، فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئاً من مال المسلمين، وهذه الدقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات لأوليائه السابقين إلى الخيرات، وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل، بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات .

8- رفضه هدية لزوجته:
قال ابن عمر: أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة، أراها تكون ذراعاً وشبراً، فرآها عمر عندها، فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر رضي الله عنه فضرب بها رأسها، حتى نفض رأسها ، ثم قال علي بأبي موسى وأتعبوه فأتى به، وقد أتعب وهو يقول: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين فقال عمر: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها ، وكان رضي الله عنه يمنع أزواجه في التدخل في شؤون الدولة، فعندما كتب عمر رضي الله عنه على بعض عماله، فكلمته امرأته فيه فقالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه؟ قال: يا عدوة الله وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين، وفي رواية: فأقبلي على مغزلك ولا تعرضي فيما ليس من شأنك .

9- هدية ملكة الروم لزوجته أم كلثوم:
ذكر الأستاذ الخضري في محاضراته، أنه – لما ترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه وسير إليه عمر الرسل مع البريد بعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحناش من أحناش النساء ودسته إلى البريد فأبلغه لها فأخذ منه وجاءت امرأة قيصر وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم وكاتبتها وأهدت لها وفيما أهدت لها عقد فاخر، فلما انتهى به البريد إليه أمر بإمساكه ودعا الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى بهم ركعتين وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري. قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فقال قائلون: هو له بالذي لها: وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به ولا تحت يديك فتبقيك. وقال آخرون قد كنا نهدي الثياب لنستثيب ونبعث بها لتباع ولنصيب شيئاً، فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال ورد عليها بقدر نفقتها .

10- أم سليط أحق به:
عن ثعلبة بن أبي مالك أنه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرطٌ جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم التي عندك – يريدون أم كلثوم بنت علي – فقال عمر: أم سليط أحق به - وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول اللهصلى الله عليه و سلم- قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد .

11- غششت أباك ونصحت أقرباءك :
جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فقالت: يا أمير المؤمنين، حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عز وجل بالأقربين من هذا المال، فقال: يا بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففي سداد المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك. قومي .

12- أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً:
قدم صهرٌ لعمر عليه فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً: فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلب ماله عشرة آلاف درهم .

هذه بعض المواقف التي تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا ولرتع من بعدهم وكان مال الله تعالى حبساً على أولياء الأمور. ومن القواعد الطبيعية المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق واختل بيت المال أو مالية الحكومة وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح وجهر المستسر بالخيانة وانحل النظام، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس زاهداً في حقوقهم دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه وإذا كان حاكما حدبوا عليه وأخلصوا في طاعته وكان أكرم عليهم من أنفسهم .
ومن خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا مَعْلمٌ من معالم الفاروق في ممارسة منصب الخلافة وهي القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامة، حتى قال في حقه علي بن أبي طالب: عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا، وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعماله الأثر الكبير في زيادة هيبته في النفوس وتصديق الخاصة والعامة له .
هذا هو عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة رباه الإسلام، فملأ الإيمان بالله شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله والتربية على تعاليم هذا الدين سبباً عظيماً في جعل الحاكم قدوة في أروع ما تكون القدوة من هنا إلى يوم القيامة .