خامساً: الأدلة التي يعتمد عليها القاضي:
 
خامساً: الأدلة التي يعتمد عليها القاضي:

إن الأدلة التي يعتمد عليها القاضي في إصدار الحكم هي:

الإقرار وتعتبر الكتابة نوعاً من الإقرار.
الشهادة: وعلى القاضي أن يتحقق من صلاحية الشهود لأداء الشهادة، فإن لم يعرفهم هو، طلب منهم أن يأتوا بمن يعرفهم، فقد شهد رجل عند عمر بشهادة فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، إئت بمن يعرفك فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال: بأي شيء تعرفه؟ قال بالعدالة والفضل، قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فهل عاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه ، والشهادة مقدمة على اليمين سواء أقامها صاحبها قبل أن يحلف خصمه اليمين أو بعد أن يحلف اليمين، فإذا استحلف المدعي المدعى عليه على دعواه، فحلفه القاضي على ذلك، ثم أتى المدعي بالبينة بعد ذلك على تلك الدعوى، قبلت بينته، وردت اليمين، قال عمر: اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة ،والمطالب بالشهادة هو المدعي، فقد كتب عمر إلى أبي موسى فيما كتب: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ، فإن لم يتوفر عند المدعي إلا شاهد واحد اعتبر بشهادته وحلف معها المدعي اليمين، فقد كان عمر يقضي في المال باليمين مع الشاهد الواحد .
اليمين: ولا يلجأ القاضي إلى تحليف اليمين إلا عند عجز المدعي عن إقامة البينة ومطالبة المدعي باليمين، فإن حلف قضى بيمينه وقد قضى عمر على وادعة بالقسامة فحلفوا، فأبرأهم من الدم، وقد تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت في نخل ادّعاه أبيّ، فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد: اعف أمير المؤمنين، قال عمر: ولم يعف أمير المؤمنين؟ إن عرفت شيئاً استحققته بيميني، وإلا تركته، والذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي وما لأبيّ فيه حق فلما خرجا وهب النخل لأبيّ، فقيل له: يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ فقال: خفت أن لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة(

ولا يجوز لمن استحقت عليه اليمين أن يمتنع عنها ورعاً، وقد رأينا فيما تقدم كيف أن عمر حلف فلما استحق الحق تنازل عنه.
وكان عمر رضي الله عنه يغلظ الأيمان على بعض المتخاصمين بتحليفهم إياها في مكان يوقع الرهبة في نفوسهم فلا يجرأون على الكذب فيها، فقد حلّف جماعة مرة في الحجر، واستحلف آخر بين الركن والمقام .
القيافة في قضايا إثبات النسب: وهي من القرائن القوية التي يُحكم بمقتضاها، دلّ على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعمل الخلفاء الراشدين والصحابة، وقد أثبت الحكم بالقيافة عمر بن الخطاب، وابن عباس وغيرهم .
القرائن: والقرائن باب واسع يتفنن القضاة في استنباطها ويعتبر من القرائن القوية قرينة الحبل للمرأة التي لم يسبق لها زواج فهو يعتبر دليلاً على الزنا، ومثله الولادة لمدة أقل من مدة الحمل، ومنها وجود ميتين أحدهما فوق الآخر، فإن هذا الوضع قرينة قوية على أن الذي مات أولاً هو الأسفل، وأن الذي مات آخراً هو الأعلى، ولذلك فقد كان عمر في طاعون عمواس إن كانت يد أحد الميتين أو رجله على الآخر ورَّث الأعلى من الأسفل ولم يورث الأسفل من الأعلى، ومن القرائن القوية على شرب الخمر وجودها في القيء، وقد أقام عمر حد الشرب على من وجدها في قيئه .
علم القاضي: لا يعتبر علم القاضي في الحدود دليلاً يخوّل له إصدارَ الحكمِ على المتهم، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن لا يأخذ الإمامُ بعلمه ولا ظنه ولا بشبهته ، وقال لعبد الرحمن بن عوف أرأيتَ لو رأيتُ رجلاً قتل أو سرق أو زنى، قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال عمر: أصبت ، وأما في غير الحدود؛ فقد اختلفت الرواية عن عمر في اعتبار علم القاضي حجة تخول القاضي الاعتماد عليها في الحكم إن لم يتوفر من الأدلة غيرها هذا وقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على عدم تشجيع الناس على الاعتراف بخطاياهم، بل يريد لهم الستر والتوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلما خطب شرحبيل بن السمط الكندي وكان يتولى مسلحة دون المدائن، فقال: أيها الناس، إنكم في أرض الشراب فيها فاشٍ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حداً، فليأتنا فلنقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: (( لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الله الذي سترهم )) ، ولكن إذا رفع الناس الأمر إلى القضاء، فإن الدولة كانت تقيم الحدود دون هوادة ، وكان رضي الله عنه عندما يريد أن يحكم بين خصمين يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان علي من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين.