ثامناً: إمضاؤه الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
 
ثامناً: إمضاؤه الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ، وعن أبي الصهباء قال
لابن عباس: أتعلم أنّما كانت الثلاث تُجعلُ واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم .
في هذين الأثرين قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإيقاع الطلاق الثلاث ثلاثاً، على خلاف ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وعهد أبي بكر الصديق، حيث كان الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد أو مجلس واحد يوقع طلقة واحدة. ووجهة عمر في إيقاع هذه العقوبة والتعزير أن الناس أكثروا من إحداث طلاق الثلاث، فأراد أن يردهم إلى الطلاق السُّنِّي الذي شرعه الله، وهو إيقاع طلقة واحدة ثم يتركها حتى تنتهي عدتها، فإن كان له رغبة في عودة وشائج الزوجية راجعها قبل انتهاء العدة، وهكذا حتى تنتهي عدد الطلاق الثلاث ، وهذا التصرف من عمر بن الخطاب اعتبره بعض الناس مخالفة للنصوص ومنهم الدكتور عطية مصطفى مشرفة حيث قال: وكان عمر جريئاً في العمل بالرأي ولو خالف ذلك بعض النصوص والقواعد التي كانت معروفة ومعمولاً بها من قبل، ليكون الحكم ملائماً لأحوال المجتمع الإسلامي الجديد ، وذكر من الأمثال التي ضربها إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثاً والحق أن عمر بهذا التصرف لم يخالف النصوص القطعية، وإنما اجتهد في فهم النصوص، إذ له سند منها:
1- روى مالك عن أشهب عن القاسم بن عبد الله أن يحيى بن سعيد حدّثه أن
ابن شهاب حدثه، أن ابن المسيب حدَّثه، أن رجلاً من أسلم طلق امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث تطليقات، فقال له بعض الصحابة: إن لك عليها رجعة، فانطلقت امرأته حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت: إن زوجي طَلَّقَني ثلاث تطليقات في كلمة واحدة فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم: قد بنت منه ولا ميراث بينكما . ففي هذا الحديث أمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً.
2- روى النسائي بسنده: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجُلٌ وقال: يا رسول الله ألا أقتله ، ففي هذا الحديث غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم على من طلق امرأته ثلاثاً بلفظ واحد وأنكر عليه، مما يدل على وقوعها، إذ لو لم تقع الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لبيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم , لأن تأخير البيان عن وقت
الحاجة مع إمكانه غير جائز .
3- وعن نافع بن عمير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهيمة ألبتَّة، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان .
ففي هذا الحديث لما طلق ركانة زوجته البتة، وادعى أنه لم يرد إلا طلقة واحدة، استحلفه الرسول صلى الله عليه و سلم على أنه ما يريد إلا طلقة واحدة، فحلف فردها إليه، مما يدل على أنه لو قصد بطلاقه البتة الطلاق الثلاث لوقعن، وإلا فلم يكن لتحليفه معنى، وبعد سياق ما تقدم نجد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استند إلى دليل من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه بإمضائه الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لم يكن بدعا من عند نفسه، كما أن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم وافقه فيما ذهب إليه، كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود ولهم أكثر من رواية، وعمران بن حصين وعلى هذا فقضية إيقاع الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، أو كلمات مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو يقول: أنت طالق ثم ثلاثاً أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، أو ألف طلقة، أو نحو ذلك من العبارات مسألة اجتهادية للحاكم بحسب ما يرى من المصلحة في الزمان والمكان أن يوقعها ثلاثاً أو طلقة واحدة رجعية ، وقال ابن القيم رحمه الله: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه، بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم، لما علموا أنه حرام وتتابعوا فيه، ولا ريب أن هذا سائغ للأئمَّة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عزوجل وتسهيله .