ثالثاً: حقوق الولاة:
 
ثالثاً: حقوق الولاة:

مما لا ريب فيه أن للولاة على البلدان حقوقاً مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، وبالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة دين الإسلام وهذه أهم حقوقهم:
1- الطاعة في غير معصية:
وواجب الطاعة من الرعية للأمراء والولاة قررته الشريعة قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59) (النساء، آية:59).
وهذه الآية تنص على وجوب طاعة أولى الأمر ومنهم الأمراء المنفذون لأوامر الله سبحانه وتعالى ، ولاشك أن طاعة الأمراء والخلفاء مقيدة بطاعة الله وأنهم متى عصوا الله فلا طاعة لهم .

2- بذل النصيحة للولاة:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين لا أبالي في الله لومة لائم خير لي أم أقبل على نفسي، فقال: أما من ولي من أمر المؤمنين شيئاً فلا يخف في الله لومة لائم، ومن كان خلواً من ذلك فليقبل على نفسه ولينصح لولي أمره .

3- إيصال الأخبار للولاة:
يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه والصدق في ذلك، سواء
ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء أو ما كان متعلقاً بعمال الوالي وموظفيه والعجلة في ذلك قدر المستطاع خصوصاً ما كان متعلقاً بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك من منطق الاشتراك في المسؤولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة.

4- مؤازرة الوالي في موقفه:
إذا كان موقفه للمصلحة العامة وتلزم المعاونة بالدرجة الأولى من قبل الخليفة، فقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على هذا المعنى كل الحرص حيث كان يولي عناية خاصة لاحترام الناس لولاتهم وتقديرهم لهم ويبذل في ذلك مختلف الأسباب (فكان عمر على شدة ما فيه مع عماله إذا أحس باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور ومهابة يلجم بها العامة والخاصة .

5- حق الأمير في الاجتهاد:
من حق الأمير الاجتهاد برأيه في الأمور التي يكون مجال الاجتهاد فيها مفتوحاً خصوصاً في الأمور التي لم يحددها الشرع بدقة وفي الأمور الأخرى التي لم يأت فيها تفويض من الخليفة للتصرف في حدود معينة، فقد اجتهد أحد ولاة عمر في الشام في قسمة الأسهم بين الراجلة والفرسان، فأجاز عمر اجتهاده، وقد اشتهر عن ابن مسعود وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه أنه خالف عمر في أكثر من مائة مسألة اجتهادية .

6- احترامهم بعد عزلهم:
من حقوق الولاة احترامهم بعد عزلهم، فعندما عزل عمر رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة عن ولاية الأردن، بين للناس سبب عزله، وقال لشرحبيل عندما سأله أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل ، وعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة ولعله رأى أن احترامه يقضي بإبعاده عن أناس كانوا يعيبونه في صلاته مع أن سعداً كان أشبه الناس صلاة برسول الله لعلمه التام بصفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم , فعزله عمر احتراماً له عن أن يقع فيه مثل هؤلاء الجهال .

7- حقوقهم المادية:
أما عن الناحية المادية فقد كان للولاة حقوق وعلى رأسها مرتباتهم التي يعيشون عليها، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون قد أحسوا بأهمية الأرزاق بالنسبة للعمال، وأنها حق من حقوقهم إضافة إلىاستغنائهم بها عن الناس وبالتالي عدم التأثير عليهم أو محاولة رشوتهم ، وقد كان عمر بن الخطاب حريصاً على نزاهة عماله وعفتهم عن أموال الرعية، واستغنائهم بأموالهم عن أموال الغير، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أحس بهذه القضية الخطيرة، وأحس أنه لكي يضمن نزاهة عماله فلا بد له أن يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنّست أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني باستعمالهم فقال له عمر:
يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال
أبو عبيدة: أما إن فعلت فاغنهم بالعمالة عن الخيانة ، يعني إذا استعملتهم في شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق، حتى لا يحتاجون إلى الخيانة أو إلى الناس وقد كان عمر يصرف لأمراء الجيش والقرى وجميع العمال من العطاء ما يكفيهم بالمعروف نظير عملهم ( على قدر ما يصلحهم من الطعام ما يقومون به من الأمور) ، وكان عمر يحرص على نزاهة العمال عما بأيديهم من الأموال العامة فيقول لعماله: قد أنزلتكم من هذا المال ونفسي منزلة وصي اليتيم من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ، وقد فرض عمر لجميع عماله تقريباً مرتبات محددة وثابتة سواء يومية أو شهرية أو سنوية وقد ورد ذكر بعضها في المصادر التاريخية منها ما كان طعاماً ومنها ما كان نقوداً محددة ، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات وعمّار بن ياسر على الصلاة والجند ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار بن ياسر، لأنه كان في الصلاة والجند، وجعل ربعها لعبد الله بن مسعود والربع الآخر لعثمان بن حنيف كما ورد أن عمر بن الخطاب فرض لعمرو بن العاص أثناء ولايته على مصر مائتي دينار ، وكان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن خمسة آلاف درهم، ولزهده كان يأكل من عمل يده من الخوص ويتصدق بعطائه ،وقد وردت روايات أخرى متفاوتة في أرزاق عمر لولاته، ولا شك أن هذا الاختلاف في الروايات مرده إلى تطور الأحوال وتغيرها خلال عهد عمر، فلا يعقل أن تبقى الأرزاق والمرتبات على ماهي عليه من أول عهده إلى نهايته، نظراً لتغير الظروف والأحوال واختلاف الأسعار وتطور الحاجات نتيجة اتساع الفتوح وزيادة الدخل في بيت المال ، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رزق معاوية على عمله بالشام عشرة آلاف دينار في كل سنة، كما ذكر أن عمر كان يفرض لأمراء الجيوش والقرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلهم من الطعام وما يقومون به من الأمور .
وقد كره بعض العمال أخذ الأرزاق نتيجة قيامه بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال إني لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني فقال النبي صلى الله عليه و سلم: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، ومالاً فلا تتبعه نفسك ، وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلامياً فرضه الرسول صلى الله عليه و سلم , وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرّغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية.
8- معالجة العمال إذا مرضوا:
مرض معيقيب، وكان خازن عمر على بيت المال، فكان يطلب له الطب من كل من يسمع عنده بطب، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكم من طب لهذا الرجل الصالح، فإن هذا الوجع قد أسرع فيه. قالا: أما شيء يذهبه فإنا لا نقدر عليه ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد. قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد قال: هل ينبت في أرضك هذا الحنظل. قال: نعم: قالا: فاجمع لنا فيه فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، فعمدا إلى كل حنظلة، قطعاها باثنين، ثم أضجعا معيقيباً فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل، حتى إذا امّحقت أخذ أخرى. ثم أرسلاه فقال عمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً. قال الراوي: فوالله ما زال معيقيب بعدها متمسكاً ما يزيد وجعه حتى مات.