ثالثاً: وقعة جسْر أبي عبيد 13هـ:
 
ثالثاً: وقعة جسْر أبي عبيد 13هـ:

لما رجع الجالينوس هارباً مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا على رستم فأرسل جيشاً كثيفاً عليهم ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسْرى وتسمى دِرَفْش كابيان (الراية العظمى) وكانت الفرس تتيمَّن بها، وكانت من جلود النمور وعرضها ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعاً، فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه جسر، فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا. ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفْيلَة كثيرة عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ولا يثبت منها إلا القليل على قَسْر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفِيلة، ورشقتهم الفرس بالنبل فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف ، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إليهم والفيلة تجوس خلالهم، فترجل أبو عبيد وترجل الناس معه، وتصافحوا معهم بالسيوف، وفقد المسلمون خيلهم فأصبحوا رجَّالة يقاومون سلاح الفيلة والفرسان والمشاة من الفرس، إلى جانب الرماة الذي أضرُّوا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم فلا تندفع، فكان موقفاً صعباً أظهر المسلمون فيه من البسالة والتضحية ما يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوقهم عليهم في كل وسائل القتال، وكانت الفيلة أشد سلاح واجهه المسلمون فقد كانت تهدُّ صفوفهم، فناداهم أبو عبيد بأن يجتمعوا على الفيلة ويقطعوا أحزمتها ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ هو بالفيل الأبيض فتعلق بحزامه وقطعه ووقع الذين عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك، فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرت في الهجوم لأنها كانت مدربة، فرأى أبو عبيد أن يتخلص منها، فسأل عن مقاتلها، فقيل له إنها إذا قطعت مشافرها تموت، فهجم على الفيل الأبيض، ونفح خرطومه بالسيف فأتقاه، الفيل بيده وأطاح به ثم داسه بأقدامه، وأخذ الراية أخوه الحكم بن مسعود فقاتل الفيل حتى أزاحه عن أبي عبيد ولكن وقع له ما وقع لأبي عبيد، فقد أراد الحكم قتله، فألقاه بيده، ثم داسه بأقدامه، وانتقلت راية المسلمين إلى الذين سماهم أبو عبيد، ومنهم أبناؤه الثلاثة وهب ومالك وجبر، إلى أن قتلوا جميعاً فانتقلت القيادة للمثنى بن حارثة مع آخر النهار، وكان بعض المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، واستمر الانسحاب من الميدان، فلما رأى ذلك عبد الله بن مرثد الثقفي بادر وقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاول منع الناس من العبور فأتوا به إلى المثنى فضربه من شدة غضبه من صنيعه وقال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، وقد كان اجتهاده في غير موضعه لأن قطع الجسر أدى إلى وقوع بعض المسلمين في النهر وغرقوا بسبب شدة الضغط من الفرس، فكانت الفكرة المناسبة أن يحافظ المسلمون على بقيتهم بالانسحاب إن استطاعوا ذلك، وهذا هو ما قام به المثنى حيث أمر بعقد الجسر ووقف هو ومن معه من أبطال المسلمين فحموا ظهور المسلمين حتى عبروا وقال المثنى: يا أيها الناس إنا دونكم فاعبروا على هينتكم – يعني على مهلكم – ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم، وكان المثنى ومن معه من الأبطال من أمثال عاصم بن عمرو والكلج الضَّبِّي هم آخر من عبر، وقد كان بَهْمَن جاذويه حاول أن يجهز على بقية المسلمين ولكنه لم يستطع وفَوَّتَ عليه هذه الفرصة المثنى حينما تولى قيادة هذا الانسحاب المنظم ولا شك أن هؤلاء الأبطال الذي حموا ظهور المسلمين حتى انسحبوا قد بذلوا جهوداً جبارة في الصمود أمام الأعداء لقد انسحب خمسة آلاف من المسلمين وخلفوا وراءهم أربعة آلاف من الشهداء منهم عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم خاصة الذين رافقوا أبا عبيد من المدينة، وقد عاد ألفان ممن انسحبوا إلى المدينة وغيرها ولم يبق مع المثنى غير ثلاثة آلاف، أما الفرس فقد قتل منهم ستة آلاف بالرغم من الوضع السيئ الذي كان فيه المسلمون مما يدل على بسالتهم وقوة احتمالهم.

أهم الدروس والعبر والفوائد من معركة جسر أبي عبيد:
أ- رؤية صادقة:
كانت دومة امرأة أبي عبيد قد رأت رؤيا أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد وابنه جبر في ناس من أهله فأخبرت بها أبا عبيد فقال: هذه الشهادة، وعهد أبو عبيد إلى الناس فقال: إن قُتلت فعلى الناس فلان حتى عد سبعة من ثقيف من أقاربه الذين ذكرتهم امرأته في الرؤيا، فإن قتل آخرهم فالقيادة للمثنى بن حارثة .

ب- غلطتان سببتا الهزيمة:
مخالفة أبي عبيد لمن معه من أركان الجيش ووجوهه، لقد نهوه عن العبور فلم ينته، واستقل برأيه، لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وحب للشهادة، لكنه لم يحسب للمعركة حسابها الكامل، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف(
)، ولقد أفلت من يد أبي عبيد عنصر الأمن بانحصاره في مكان ضيق المخرج وكأنه وضع جيشه في مصيدة دون عذر مقبول، وأفلت من يده عنصر التعاون بين الأسلحة المختلفة بخروج سلاح الفرسان من المعركة، فصارت قواته مشاة دون فرسان وكان عليهم أن يواجهوا مشاة الفرس وفرسانهم وأفيالهم، وفقدت المعركة كفاءة القيادة حتى تولاها المثنى أخيراً بعد سبعة سبقوه، وكما فقد ذلك فقد أيضاً عنصر الحشد بسبب ضيق المكان إذ لا فائدة من أعداد الجند إذا لم تسعفها طوبوغرافية الأرض، كما أنه فقد حسن اختيار الهدف وما يتفرع عنه من اختيار الأرض واختيار طريق الوصول إليه وطريق ضربه وما إلى ذلك، فوّته على نفسه، بل أتاح لعدوه أن يفرضه عليه .

والذي زاد غلطة أبي عبيدة فداحة، غلطة زادت الغلطة الأولى أثراً وخسارة وفاجعة، إنها غلطة عبد الله بن مرثد الثَّقفي عندما قطع الجسر، كي لا يرتد أحد من المسلمين ولولا الله ثم ثبات المثنى بن حارثة ومن معه لهلك المسلمون عن آخرهم .

ت- قيمة القيادة الميدانية:
إن معركة الجسر أثبتت أهمية القيادة الميدانية المتمثلة في المثنى وأركان قيادته الذين معه، فعندما تنزل المحن بالجيوش يخرج القادة الذين يستطيعون أن يخرجوا بجيوشهم من تلك المحن ، فقد تولى المُثنى مع مساعديه من الأبطال حماية الجيش الإسلامي، فكان آخر من عبر الجسر، وهذا لون رفيع من ألوان التضحية والفداء .

ث- المثنى يقوم برفع الروح المعنوية لجيشه:
انسحب المثنى بأربعة آلاف جندي من أصل عشرة آلاف، وقام بمطاردته قائدان فارسيان هما: (جابان)و(مردنشاه) باتجاه أليس (السماواة)، وجرهما المثنى وراءه مسافة حتى توغلا ولم يشأ أن يبدأ حملة مضادة إلا بعد مرحلة من الانسحاب وعند بلوغه السماواة شن هجوماً صاعقاً بالخيالة التي قاسدها بنفسه، فأنزل بهما هزيمة عجيبة، ويبدو أن هول المفاجأة وعدم تصورهم أن إنساناً قد أبيد معظم جيشه، يمكن أن يكون له مثل هذا العزم الذي يفل الحديد، ومن شدة ذهول القطعات الفارسية أنزلت بها خسائر كبيرة بحيث تمكن المثنى من أسر القائدين جابان ومردنشاه وأعدمهما المثنى، فكان لهذا النصر أثر كبير في تقوية معنويات البقية الباقية من الجيش، ورفعت الموقعة معنويات سكان المنطقة، ورفعت قيمة المثنى في نظر جنوده والقبائل المجاورة .

ج- كلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج قيض الله لهم الأسباب التي تخرجهم من ذلك الحرج:
بقي المثنى في العراق في عدد قليل لا يكفي حتى للاحتفاظ بالممالك التي استولى عليها المسلمون، ولقد كان بإمكان الفرس أن يلاحقوا بقية الجيش الإسلامي حتى يخرجوهم من العراق، وسيجدون ممن بقي على الوراء لهم من العرب من يتولى مطاردتهم في الصحراء ولكن الله تعالى مع هذه الفئة المؤمنة ومع المؤمنين في كل مكان، فكلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج يسر الله لهم الأسباب للخروج منه، فقد قيض المولى عز وجل أمراً صدّهم عن المسلمين حيث انقسموا إلى قسمين قسم مع رستم وقسم مع فيرزان، وأتى الخبر إلى قائد الفرس بهمن جاذويه فأسرع بالعودة إلى المدائن وكان ممن يُنظر إليه في أمور سياستهم وهكذا كفى الله المؤمنين القتال وأنقذهم من هذا المأزق الحرج وأخذوا فرصة كافية لتلقِّي الجيوش القادمة من دار الخلافة حتى تقوَّوا وأصبح لديهم جيش كبير .

ح- موقف عمر رضي الله عنه عندما تلقى خبر الهزيمة:
بعث المثنى بن حارثة بأخبار المعركة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه مع عبد الله بن زيد الأنصاري فقدم على عمر وهو على المنبر فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس سراً ، فما سمع لرجل حضر أمراً تحدث عنه أثبت خبراً منه ، وقد تأثر عمر ومن حوله من الصحابة لمصاب الجيش الإسلامي في هذه المعركة وقال: اللهم كل مسلم في حلِّ مني، أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو فَفُظِع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إليَّ لكنت له فئة .
وهذا الموقف يدل على أن عمر وهو الرجل القوي الحازم يلين ويواسي في مقام الرحمة والعطف .