تاســعاَ: فتح تستر:
 
تاســعاَ: فتح تستر:

وصل جيش النعمان بن مقرن وجيش سهل بن عدي إلى تستر، واجتمعا تحت قيادة أبي سبرة بن أبي رُهْم، وقد استمد أبو سبرة أمير المومنين فأمدهم بأبي موسى الأشعري فأصبح قائد جيش البصرة، وظل أبو سبرة قائد الجيش كله وقد بقي المسلمون في حصار تستر عدة شهور قابلوا فيها جيش الأعداء في ثمانين معركة وظهرت بطولة الأبطال بالمبارزة فاشتهر منهم عدد بقتل مائة مبارز سوى من قتلوا في أثناء المعارك، وقد ذكر منهم : البراء بن مالك ومجزأة بن ثورة وكعب بن سور وأبو تميمة وهم من أهل البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك ذُكر منهم حبيب بن قرة ورِبْعي بن عامر، وعامر بن عبدالله الأسود .
ولما كان أخر لقاء بين المسلمين وأعدائهم، واشتد القتال نادى المسلمون البراء بن مالك وقالوا: يا براء ـ أقسم على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهمَّ اهزمهم لنا، واستشهدني، وقد باشر المسلمون القتال وهزموا أعداءهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم وأنه لما ضاق الأمر على الفرس واشتد عليهم الحصار اتصل اثنان منهم في جهتين مختلفتين بالمسلمين وأخبراهم بأن فتح المدينة يكون من مخرج الماء، وقد وصل الخبر إلى النعمان بن مقرن، فندب أصحابه كذلك، فالتقى الأبطال من أهل الكوفة والبصرة في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه بساحة إلى المدينة فكبَّروا وكبر من وقفوا في الخارج، وفتحوا الأبواب، فأبادوا من حولها بعد شيء من المقاومة ، وقد استشهد في هذه المعركة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور حيث رماهما الهرمزان، وكان استشهادهما بعد انتصار المسلمين في المعركة ولجأ الهرمزان قائد الفرس إلى القلعة، وأطاف به المسلمون الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قِبلَه قال لهم:
ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ومعي في جعبتي مائة نشَّابه، ووالله ما تصلون إليَّ ما دام معي نشابة، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوا وثاقه وأرصدوه ـ أي راقبوه ـ ليبعثوا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم وفي غزوة تستر دروس وعبر منها:-

ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها:
قال أنس بن مالك أخو البراء: شهدت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح الله لنا، قال أنس بن مالك الأنصاري: ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها

وسامٌ من أوسمة الشرف ناله البراء بن مالك:
علّق النبي صلى الله عليه و سلم على صدر البراء بن مالك وساماً عظيماً من أوسمة الشرف وذلك بقوله: (كم من أشعث أغبر ذي طِمْرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك ، فقد كان البراء مستجاب الدعوة، وعرف الناس عنه ذلك بموجب هذا الحديث ولذلك طلبوا منه في هذه المعركة أن يدعوا الله ليهزم عدوهم، ومع هذا الثناء العظيم من رسول الله صلى الله عليه و سلم على البراء فإنه لم يَبْطَر ولم يتكبر، بل ظل الرجل المتواضع الذي يقتحم الأهوال، ويأتي بأعظم النتائج، من غير أن تكون له إمرة أو قيادة وإذا كان قد سأل الله تعالى النصر للمسلمين وهو عزُّ لهم وللإسلام فإنه لم يُغفل نفسه أن يسأل الله تعالى أغلى ما يتمناه المؤمن القوي الإيمان، حيث سأل الله تعالى الشهادة، وقد استجاب الله تعالى دعاءه فهزم الأعداء ، ورزقه الشهادة في ذلك اليوم .

3- خبر أمير المؤمنين عمر مع الهرمزان:
وأرسل أبو سَبرة بن أبي رُهم قائد المسلمين في تلك المعارك وفداً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأرسل معهم الهرمزان، حتى إذا دخلوا المدينة هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجاً يُدعى الأذين مكللاً بالياقوت وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل لهم: جلس في المسجد لوَفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرُّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدُّدكم ؟ أتريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسداً برنسه
- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس - فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برسنه ثم توسده فنام - فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والِّدرة في يده معلقة فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه وأصغى الهرمزان إلى الوفد فقال: أين حرسه وحُجَّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبياً، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه وقال: أعوذ بالله من النار؟ واستعن الله، وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا و أشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه و سلم , ولا تُبطرنكم الدنيا فإنها غرارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكَّلمه ، فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شئ فُرمي عنه بكل شئ عليه إلا شيئاً يستره، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلىَّ بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلتني قبل أن أخبرك،قال:لا تخف ذلك، واستسقى ماء ، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متُّ عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا ، فأتي به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك ، قال: قد آمنتني، فقالك كذبت، فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال ويحك يا أنس أنا أُؤمِّن قا تل مجزأة والبراء، والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني،وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني ، والله لا أنخدع إلا لمسلم ، فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.