ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:
 
ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:

يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن :

1- سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) (الأنفال،آية:60).
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآية وأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ معنا.

2- سنة التدافع:
قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) (البقرة،آية:251).
وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية .
3- سنة الابتلاء:
قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) (البقرة،آية:214).
وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف من المسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...
(آل عمران،آية:186).
ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد ، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام.

4- سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)
(هود،آية:100-102).
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود .

5- سنة الله في المترفين:
قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) (الإسراء،آية:16).
وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها
وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد ، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم.

6- سنة الله في الطغيان والطغاة:
قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) (الفجر،آية:14). والآية وعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم .
وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به .
وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة .
وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى(25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى(26) (النازعات،آية:25،26)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.

7- سنة التدرج:
خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانت المرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما المرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركة البويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد في العراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأما المرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.
إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهمية مراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل ولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية ، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضع بإرادة الله لهذه السنة.

8- سنة تغيير النفوس:
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... (الرعد،آية:11)
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله
ـ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ـ فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.

9- سنة الله في الذنوب والسيئات:
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6) (الأنعام،آية: 6).
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه .