المبحث الأول: فتوحات الشام:
 
المبحث الأول: فتوحات الشام:


كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه ، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب
أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله .

حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:
علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل
ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد.
عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:
عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على
ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم .