المبحث الثالث أهـــــــــم صفاتـــــــــــه
 


المبحث الثالث أهـــــــــم صفاتـــــــــــه

إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف بصفات القائد الرباني، ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم، والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات. وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يحافظ على الدولة ويقمع الثورات التي حدثت في الأراضي المفتوحة، وينتقل -بفضل الله وتوفيقه- بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ومن أهم تلك الصفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث هي:

أولاً: العلم والقدرة على التوجيه والتعليم:

يعتبر عثمان من كبار علماء الصحابة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيأتي الحديث عن اجتهاداته الفقهية في المجال القضائي والمالي والجهادي بإذن الله تعالى، وكان حريصا على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فعن عروة بن الزبير، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك يكلم أمير المؤمنين عثمان في الوليد بن عقبة، وقد أكثر الناس فيما فعل؟ قال عبيد الله: فاعترضت لأمير المؤمنين عثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: إن لي إليك حاجة هي نصيحة، قال: يا أيها المرء، إني أعوذ بالله منك. قال: فانصرفت، فلما قضت الصلاة جلست إلى المسور وابن عبد يغوث فحدثهما بالذي قلت لأمير المؤمنين وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي عليك، فبينما أنا جالس معهما جاءني رسول أمير المؤمنين عثمان فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت حتى دخلت على عثمان، فقال: ما نصيحتك التي ذكرت لي آنفا؟ قال: فتشهدت ثم قلت له: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، قال: فقال لي: ابن أختي، أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إليَّ من علمه واليقين ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، ونلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف بعده أبو بكر فبايعناه فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف عمر فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلفني الله أفليس لي عليكم مثل الذي كان لهم عليَّ؟ قال: فقلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه -إن شاء الله- بالحق، قال: فجلد الوليد أربعين سوطا، وأمر عليا بجلده فكان هو يجلده([1]).

لقد لازم ذو النورين النبي صلى الله عليه وسلم فاستفاد من علمه وهديه، مما جعله من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم جميعا، وكان قادرا على توجيه رعيته توجيها مفيدا، وتعليمهم واجباتهم ونقل آرائه النابعة من علمه وخبرته وتجاربه وممارسته إليهم؛ حتى يرتقوا في مجال الدعوة والتربية والتعليم والجهاد والاستعداد للقاء الله عز وجل.

ومن توجيهات عثمان ما تضمنته خطبة خلافته التي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا بالذي هو خير([2]), قال تعالى: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ` الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" [الكهف: 45، 46].

ولقد كان المعنى الذي يدور حوله توجيه الخليفة الثالث في هذه الخطبة هو الحض على الإقبال على الله والزهد في الدنيا، وهذا هو المناسب لخطبته في ذلك الوقت الذي ألقى فيه الإسلام بجرانه([3]) في أقطار المعمورة وفتحت البلدان وأقبلت الدنيا بنعيمها، وبدأ الناس في التنافس فيها وبخاصة غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان المقال مناسبا للمقام.([4])

وقد روى عثمان أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفعت بها الأمة؛ فهذا أبو عبد الرحمن السلمي يحدثنا عن حديث سمعه من عثمان فعمل به، فعن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».([5]) قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. وفي رواية عن شعبة قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن.([6]) وكان عثمان يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين كل في محله ومناسبته، ومن هذه الأحاديث:

1- أهمية الوضوء:

توضأ عثمان على البلاط، ثم قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل فصلى، غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» ([7]).

2- تقليده لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء:

عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان: أنه دعا بماء فتوضأ ومضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم ضحك، فقال لأصحابه: ألا تسألوني عما أضحكني؟ فقالوا: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بماء قريبا من هذه البقعة، فتوضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: «ألا تسألوني ما أضحكني؟» فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: «إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه، حط الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإن مسح برأسه كان كذلك، وإن طهر قدميه كان كذلك».([8])

3- كفارات الوضوء:

عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتم الوضوء كما أمره الله -عز وجل- فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن» ([9]).

4- الوضوء وصلاة ركعتين ومغفرة الذنوب:

دعا عثمان بماء وهو على المقاعد, فسكب على يمينه فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاث مرار، ومضمض واستنثر، وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرار، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما، غفر الله ما تقدم من ذنبه» ([10]).

5- كلمة الإخلاص وكلمة التقوى:

قال عثمان : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حُرم على النار»، فقال له عمر بن الخطاب: أنا أحدثك ما هي؟ هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله -تبارك وتعالى- محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي أَلاَصَ([11]) عليها نبي الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب عند الموت: شهادة أن لا إله إلا الله([12]).

6- العلم بالله يدخل العبد الجنة:

عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» ([13]).

7- الحسنات والباقيات:

عن الحارث مولى عثمان قال: جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: «ومن توضأ وضوئي هذا، ثم قال فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات». قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.([14])

8- خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعمد عليَّ كذبا، فليتبوأ بيتًا في النار» ([15]).

هذه بعض الأحاديث التي رواها عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدل على علم عثمان وحرصه على الاستزادة من الهدي النبوي، وفقه الشريعة الغراء.

ثانيًا: الحلم:

إن الحلم ركن من أركان الحكمة، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في حلمه وعفوه الغاية المثالية، وكان الخليفة الراشد عثمان بن عفان شديد الاقتداء في أقواله وأفعاله وأحواله برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له مواقف كثيرة تدل على حلمه وضبطه لنفسه، ومن أوضح المواقف التي تدل على حلمه قصته في حصار الثائرين عليه؛ حيث أمر من عنده من المهاجرين والأنصار أن ينصرفوا إلى منازلهم ويدعوه وكانوا قادرين على منعه، وكان حلمه مبنيا على شوقه إلى لقاء ربه، وإرادته حقن دماء المسلمين ولو بقتله([16]).

ثالثـًا: السماحة:

عن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه، فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، فقال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا». ([17]) فهذا مثل رفيع في السماحة في البيع والشراء، وهو يدل على ما جبل عليه عثمان من الكرم وعدم التعلق بالدنيا، فهو يستعبد الدنيا لخدمة مكارم الأخلاق التي من أهمها الإيثار، ولا تستعبده الدنيا، فتجعل منه أنانيا يؤثر مصالحه الخاصة وإن أضر بالناس([18]).

رابعًا: اللين:

امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن رزقه صفة اللين رحمة منه به وبعباده، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159].

أفادت الآية الكريمة أن صفة اللين رحمة من الله يرزق بها من شاء من عباده، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رزق هذه الصفة رحمة من الله به وبعباده الذين بعثه إليهم، ويفهم من الآية أن المتصف باللين يحبه الناس ويلتفون حوله ويقبلون منه ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ([19])؛ فاللين من الصفات الطيبة التي اتصف بها عثمان ، فكان لينًا على رعيته عطوفًا على أمته، يخاف أن يصاب أحد دون علمه فلا يتمكن من تلبية حاجته، وكان يتتبع أخبار الناس، فينصر الضعيف، ويأخذ الحق من القوي .

خامسًا: العفو:

عن عمران بن عبد الله بن طلحة: أن عثمان بن عفان خرج لصلاة الغداة فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف، فقال له عثمان : ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك، قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن، قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ فقال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه، فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.([20])

فهذا تسامح كبير من أمير المؤمنين عثمان بن عفان t؛ حيث عفا عمن أراد قتله، والعفو عند المقدرة صفة من صفات الكمال في الرجال، وهو دليل على التجرد من حظ النفس وتقلص الأنانية، وضعف الارتباط بالدنيا، وقوة الارتباط بالآخرة، وهذا الخلق إضافة إلى أنه عمل صالح يرفع من درجات صاحبه في الآخرة فإنه سياسة حكيمة في الدنيا؛ إذ أن هذا الرجل الذي أراد الاعتداء لو أنه قتل أو عوقب عقوبة بليغة لربما أحدث فتنة بإيغار صدور أفراد قبيلته واستعدادهم للانتقام إذا سنحت لهم الفرصة، لكن العفو عنه يجعل أفراد قبيلته وأبناء بلده يعذلونه ويعنفونه على ما حاول الإقدام عليه، وبذلك تنطفئ الفتنة قبل تصاعدها، ويكسب صاحب العفو قلوب الناس وولاءهم([21]).

سادسًا: التواضع:

قال تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا" [الفرقان: 63].

جعل المولى -عز وجل- صفة التواضع أولى صفات عباده المؤمنين، ولقد كان الخليفة الراشد عثمان متصفا بهذه الصفة، وكانت هذه الصفة تنبع من إخلاصه لله سبحانه وتعالى؛ فعن عبد الله الرومي قال: كان عثمان بن عفان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم كفاك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.([22]) فهذا مثل من اتصاف أمير المؤمنين عثمان بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن مما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل.([23]) وكان من تواضعه واحترامه لعم النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به وهو راكب نزل حتى يزول العباس احتراما وتقديرا له([24]).

سابعًا: الحياء والعفة.

الحياء من أشهر أخلاق عثمان وأحلاها، تلك الصفة النبيلة التي زينه الله بها، فكانت فيه منبع الخير والبركة، ومصدر العطف والرحمة، فقد كان من أشد الناس حياء.([25]) فقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- عثمان بن عفان يوما وشدة حيائه فقال: إنه ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه.([26])

ومن حيائهما روته بنانة -وهي جارية لامرأته- تقول: كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه فيقول لي: لا تنظري إلي، فإنه لا يحل لك.([27]) وقد وردت الأحاديث النبوية التي تحدثت عن حيائه وقد ذكرتها في موضعها.

وأما عن عفته وبعده عن مساوئ الأخلاق فحدث في ذلك بما شئت ولا حرج، فإنه لم يعرف طريق الفحشاء في الجاهلية ولا في الإسلام، يقول عثمان : ما تغنيت ولا تمنيت([28])، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا في الإسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في الإسلام([29]).

ثامنًا: الكرم:

كان عثمان من أكرم الأمة وأسخاها، وله في ذلك مواقف ومآثر لا تزال غرة في جبين التاريخ الإسلامي؛ فقد مر معنا ما قام به في غزوة تبوك، وشراؤه لبئر رومة وتصدقه به على المسلمين، وتوسيعه للمسجد النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وتصدقه بالقافلة المحملة بالخيرات في عصر الصديق ، وكان يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.([30]) وقد روى أنه كان له على طلحة بن عبيد الله -وكان من أجود الناس- خمسون ألفا، فقال له طلحة يوما: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان: هو لك معونة على مروءتك.([31]) لقد كان سخاء عثمان وجوده صفة أصلية في شخصيته الفذة ، فقد وظف أمواله في خدمة دين الله فلم يبخل في تأسيس الدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع ابتغاء رضوان الله تعالى.

تاسعًا: شجاعته:

يعد عثمان من الشجعان، والدليل على ذلك:

1- خروجه للجهاد في سبيل الله، وحضوره المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا اتهم بتخلفه عن بدر فقد سبق أن قلنا إن ذلك كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين شهدوها وأعطاه سهمه منها، ونال أجره إن شاء الله، وليس بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام.

2- سفارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى قريش في الحديبية:

امتثل عثمان-كما مر معنا- لطلب الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى قريش وهو يعرف ما أقدم عليه، غير أن رجولته وبطولته قد أبتا عليه إلا الامتثال والطاعة.

إن من يقبل السفارة في مثل تلك الظروف لشجاع عظيم، وبطل من الأبطال النوادر، صحيح أنها أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها في الوقت نفسه شجاعة لا يمكن أن يقبل بها جبان أو رجل عادي([32]).

3- الفداء بالنفس:

عندما حوصرفي داره طلب منه المارقون التنازل عن الخلافة لا خيار غيره أو القتل، أو عزل ولاته وتسليم بعضهم، فأصر على موقفه مضحيا بنفسه من أن تصبح الخلافة بيد ثلة تزيح من ترغب، وتعين من تحب، أو تنزع الخلافة من صاحبها الذي اختارته الأمة، ويصبح ذلك قاعدة.([33]) فأصر على موقفه وهو يرى الموت في سيوف المحاصرين، وإن الذي يقف هذا الموقف لهو الشجاع وإنه لصاحب حق، ولن يقف هذا الموقف رجل جبان أو محب للدنيا أبدا، فالحياة عند هؤلاء الجبناء أفضل من المكانة ومن الدنيا كلها([34])، ولكن هذا الإصرار العجيب والعزيمة النافذة، والشجاعة الفائقة من عثمان ثمرة إيمان قوي بالله -عز وجل- واليوم الآخر وقر في قلبه، وجعله يستهين بكل شيء في هذه الحياة حتى بالحياة نفسها([35]).

4- الجهاد بالمال:

إن الجهاد بالنفس اقترن مع الجهاد بالمال، وربما قدم عليه، قال تعالى: "لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 95].

وهناك آيات كثيرة تقرن المال بالنفس، وإن الذي ينفق المال في سبيل الله بسخاء إنما هو مجاهد وشجاع، وقد أنفق عثمان الكثير حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين([36]).

لقد كان عثمان شجاعا لا يهاب الموت، جريئا يواجه الباطل في تحدٍّ سافر، حليما لا يجهله حمق الحمقى([37]).

عاشرًا: الحزم:

إن صفة الحزم في شخصية ذي النورين أصيلة، ونجد الصديق عندما عرض عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان إنك رجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا.([38]) وفي سنة 26 هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا.([39])

ومن المواقف التي تدل على حزمه: حمايته لنظام الخلافة من الضياع، فلم يجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام؛ لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطا للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام. لقد كانت نظرة عثمان بعيدة الغور، فلو أجابهم إلى ما يريدون لسن بذلك سنة، وهي كلما كره قوم أميرهم خلعوه، ولألقى بأس الأمة بينها، وشغلها بنفسها عن أعدائها, وذلك أقرب لضعفها وانهيارها، على أنه لم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمة، ويحفظ كيانها وبنيانها من التصدع، ويدعم بهذا الفداء نظامها الاجتماعي ويحمي سلطانها الذي تساس به من أن تمتد إليه يد العبث والفوضى. ومما لا شك فيه أن هذا الصنع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها؛ إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها.([40]) وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.

حادي عشر: الصبر:

اتصف عثمان بصفة الصبر، ومن المواقف الدالة على هذه الصفة ثباته في الفتنة؛ إذ كان موقفه إزاء تلك الأحداث التي ألمت به وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدمه الفرد من تضحية وفداء في سبيل حفظ كيان الجماعة، وصون كرامة الأمة، وحقن دماء المسلمين؛ فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ويخلصها لو أنه أراد نفسه ولم يرد حياة الأمة، ولو كان ذاتيا ولم يكن من أهل الإيثار لدفع بمن هب للذود عنه من الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته، ولكنه أراد جمع شمل الأمة، ففداها بنفسه صابرا محتسبا، وقد أعلن عثمان أنه سيواجه الفتنة العارمة بالصبر الجميل([41]) ممتثلا قوله سبحانه: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173].

إن عثمان كان قوي الإيمان بالله، كبير النفس، نفاذ البصيرة، نبيل الصبر، حيث فدى الأمة بنفسه، فكان ذلك من أعظم فضائله عند المسلمين.([42]) قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على مَنْ نال مِنْ عرضه, وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. وقيل له: تذهب إلى مكة, فقال: لا أكون من ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف. فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله
عند المسلمين([43]).

ثاني عشر: العدل:

واتصف عثمان بصفة العدل؛ فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال له: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وهو ذا يصلي بنا إمام فتنة -عبد الرحمن بن عديس البلوى- وأنا أخرج من الصلاة معه، فقال له عثمان: إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.([44])

وروى ابن شبة بإسناده، قال: دخل عثمان بن عفان على غلام له يعلف ناقة، فرأى في علفها ما كره، فأخذ بأذن غلامه فعركها، ثم ندم، فقال لغلامه: اقتص فأبى الغلام، فلم يدعه حتى أخذ بأذنه فجعل يعركها، فقال له عثمان: شد حتى ظن أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ منه، ثم قال عثمان : واهًا لقصاص قبل قصاص الآخرة([45]).

ثالث عشر: عبادته:

كان عثمان من المجتهدين في العبادة، وقد روى من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه .([46]) ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" [الزمر: 9] قال: هو عثمان بن عفان.([47]) وقال ابن عباس في قوله تعالى: "هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [النحل: 76] قال: هو
عثمان.([48]) وكان يفتتح القرآن ليلة الجمعة، ويختمه ليلة الخميس([49])، وكان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله([50]).

رابع عشر: خوفه من الله وبكاؤه ومحاسبته لنفسه:

فقد جاء في إحدى خطبه: أيها الناس، اتقوا الله؛ فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لقبره، ويخشى أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا.([51]) وقد روى عنه قوله: لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتها يؤمر بي لتمنيت أن أصير رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.

وكانت روحه ترتجف وعَبَراته تفيض عندما يذكر الآخرة، وعندما يتخيل نفسه وقد انشق قبره ونسل من جدثه إلى العرض والحساب([52])؛ فعن هاني مولى عثمان، قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه». قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه». قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، ثم قال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يسأل». ([53]) وهذا من فقه القدوم على الله الذي استوعبه عثمانوعاش به في حياته، وما أحوجنا إلى هذا الفقه العظيم الذي به تحيا النفوس
وتنفجر الطاقات.

خامس عشر: زهده:

اشتهر أمير المؤمنين عثمان بأنه من أهل الغنى والثروة، ولكن مع هذه الشهرة فإنه قد رويت عنه أخبار تدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، فعن حميد ابن نعيم، أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- دعيا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر: قد شهدنا طعاما لوددنا أنا لم نشهده، قال: لِمَ؟ قال: إني أخاف أن يكون صنع مباهاة.([54]) فهذا فقه من عثمان بمجالات السخاء الإسلامي؛ فالسخاء في الإسلام لا يكون بالتفاخر بالكرم والتباهي بنوع الطعام أو كثرته، وإنما يكون ببذل المال من غير إسراف ولا خيلاء، مع شكر المنعم -جل وعلا- والتواضع للناس. وهذه النظرة من عثمان تعتبر من التزهيد بالجاه الدنيوي، وهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في ذلك.([55]) ومن زهد عثمان وتواضعه ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ميمون بن مهران قال: أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان عليه بغلة وخلفه غلامه نائل وهو خليفة.([56]) وكذلك ما أخرجه من حديث الهمداني قال: رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.([57]) كما أخرج من حديث شرحبيل بن مسلم أن عثمان بن عفان كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت([58]).

فهذه أمثلة جليلة من زهد أمير المؤمنين عثمان ، وحينما يكون الزاهد متوسطا في المعيشة فإن زهده لا يلفت النظر كثيرا ولا يثير العجب، ولكن حينما يكون غنيا فإن زهده يكون مدهشا للمتأملين وعبرة للمعتبرين؛ ذلك لأن كثرة المال تغري بالانصراف نحو الملذات والتوسع في النفقات، فلا بد ليكون الغني زاهدا من استيعابه لفقه القدوم على الله حتى يكون مهيمنا على نفسه مذكرا لقلبه، فتكبر الآخرة في عينه وتصغر الدنيا في نفسه، وهكذا كان عثمان الذي كان من أعظم الأثرياء في الإسلام، قد غلبت قوة إيمانه شهوته وهواه فكان من أعظم الزاهدين، وضرب من نفسه مثلا لجميع الأغنياء بإمكان الجمع بين الغنى والزهد في الدنيا.([59])

سادس عشر: الشكر:

كان عثمان كثير الشكر لله تعالى باللسان والجنان والأركان، دعى ذات يوم إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزي مسلم([60]).

سابع عشر: تفقد أحوال الناس:

كان ودودا رؤوفا يسأل عن أحوال المسلمين، ويتعرف على مشكلاتهم ويطمئن على غائبهم، ويواسي قادمهم، ويسأل عن مرضاهم؛ فقد روى الإمام أحمد، عن موسى بن طلحة قال: رأيت عثمان بن عفان وهو على المنبر، وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم وأسعارهم.([61]) وروى ابن سعد في الطبقات عنه أيضا قال: رأيت عثمان بن عفان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران، فيجلس على المنبر، فيؤذن المؤذن، وهو يتحدث يسأل الناس عن أسفارهم وعن قادمهم وعن مرضاهم.([62]) وكان يهتم بشئون الرعية، ويصل ذوي الحاجة، ويفرض العطاء للمواليد من بيت المال([63])؛ فقد روى عن عروة بن الزبير أنه قال: أدركت زمن عثمان، وما من نفس مسلمة إلا ولها في مال الله حق. يعني بيت المال([64]).

ثامن عشر: تحديد الاختصاصات:

المراد بتحديد الاختصاص تقسيم وظائف العمل على العاملين، بحيث يكون كل موظف عالِمًا بالعمل الذي كلفه ليقوم به دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى سواه. وتقسيم الوظائف سنة كونية ربانية عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده؛ ففي عهد عثمانوزعت الوظائف والأعمال على المسلمين كل في ميدانه كما سيأتي بيانه بإذن الله؛ ففي مؤسسة القضاة والمال، والجيش وولاية الأمصار ظهرت الصفة القيادية في تحديد الاختصاصات عند الخليفة الراشد عثمان ، فقد تم تقسيم الأعمال وحددت قواعد بين العاملين كانت من أهم عوامل النجاح في دولة الخلفاء الراشدين، وبذلك تعامل الخليفة الراشد عثمان مع السُنَّتين الكونية والشرعية في تحديد الاختصاصات([65]).

تاسع عشر: الاستفادة من أهل الكفاءات:

إن الإشادة بالأكفاء وإرشاد الأمة إلى احترامهم، وتكريمهم ووضعهم في مواضعهم وعدم هضمهم، والاستفادة من طاقاتهم واختصاصاتهم، إن ذلك مما جعل أهل القرون المفضلة من سلف هذه الأمة ينالون العز والمجد والتمكين في هذه المعمورة.([66]) وقد ظهرت هذه الصفة في شخصية عثمان عندما استفاد من كفاءات زيد بن ثابت واللجنة التي عينت معه في جمع القرآن على حرف واحد.

هذه بعض الصفات التي تلاحظ في شخصية عثمان وهي محل قدوة وأسوة لقادة المسلمين وعوامهم، لمن يريد أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في هذه الحياة.

إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين ومحاولة الاقتداء بهم، خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، فمن أسباب التمكين لهذا الدين العمل على إيجاد قادة ربانيين، جرى الإيمان في قلوبهم وعروقهم، وانعكست ثماره على جوارحهم، وتفجرت صفات التقوى في أعمالهم وسكناتهم وأحوالهم؛ فالقيادة الربانية الحكيمة هي التي تسعى لتحكيم شرع الله وتفجير طاقات الأمة وتوجيهها، وهي التي تحتضن الإسلام وتنهجه قلبا وقالبا، جوهرا ومنظرا، وعقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد وإخلاص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية والخارجية.




([1]) فضائل الصحابة (1/597) رقم (791)، إسناده صحيح.

([2]) البداية والنهاية (7/153).

([3]) جرانه: أي ثبت واستقر.

([4]) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، للقادري، ص93.

([5]) البخاري رقم (5028).

([6]) الخلافة الراشدة، د. يحيى اليحيى، ص420، 421.

([7]) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد، رقم (400)، إسناده صحيح.

([8]) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد رقم (415) صحيح لغيره.

([9]) الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد رقم (406)، إسناده صحيح.

([10]) المصدر نفسه رقم (418) إسناده صحيح.

([11]) ألاص: أي راوده فيها.

([12]) مسند أحمد رقم (447)، إسناده قوي.

([13]) مسند أحمد رقم (464)، إسناده صحيح.

([14]) مسند أحمد رقم (513) إسناده حسن.

([15]) مسند أحمد رقم (507) إسناده صحيح.

([16]) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، د. عبد الله قادري، ص65.

([17]) مسند أحمد رقم (410)، حسن لغيره.

([18]) التاريخ الإسلامي (17، 18/126).

([19]) الكفاءة الإدارية، ص69.

([20]) التاريخ الإسلامي (18،17/22) نقلا عن تاريخ المدينة المنورة، ص (1027، 1028).

([21]) التاريخ الإسلامي (17، 18/22).

([22]) فضائل الصحابة رقم (742)، إسناده صحيح وهو رواية أخرى.

([23]) التاريخ الإسلامي (17، 18/62).

([24]) التبيين في أنساب القرشيين (152).

([25]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص48، 49.

([26]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص43.

([27]) طبقات ابن سعد (3/59)، خبر لا بأس به.

([28]) تغنيت: من الغناء، تمنيت: من التمني، وهو الكذب واختلاق الباطل.

([29]) صحيح التوثيق، ص44.

([30]) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي (1/237).

([31]) البداية والنهاية (7/227).

([32]) الأمين ذو النورين، ص194- 196.

([33]،3) المصدر نفسه، ص197.



([35]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد الوكيل، ص304.

([36]) سنن الترمذي، رقم (3785).

([37]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص304.

([38]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص47.

([39]) تاريخ الطبري (5/250).

([40]) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/474).

([41]) سير الشهداء للسخستياني، ص57، 58.

([42]) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/472).

([43]) منهاج السنة (3/202، 203).

([44]) البخاري رقم (695).

([45]) أخبار المدينة، لابن شبة (3/236).

([46]) الطبقات الكبرى (3/76)، تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء، الذهبي، ص476.

([47]) تفسير ابن كثير (4/47).

([48]) تفسير ابن كثير (2/579).

([49]) علو الهمة (3/93).

([50]) صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي (1/302).

([51]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، مجدي فتحي السيد، ص107.

([52]) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، ص205.

([53]) فضائل الصحابة رقم (773)، إسناده حسن.

([54]) الزهد للإمام أحمد، ص126.

([55]) التاريخ الإسلامي (17، 18/48).

([56]، 3) الزهد، ص127. (4) المصدر نفسه، ص129.





([59]) التاريخ الإسلامي (17، 18/49). (6) علو الهمة (5/481).



([61]) فضائل الصحابة رقم (812)، إسناده صحيح.

([62]) الطبقات (3/59).

([63]) تحقيق مواقف الصحابة (1/396).

([64]) المصنف في الحديث لابن شيبة (3/1023).

([65]) الكفاءة الإدارية، ص117.

([66]) المصدر نفسه، ص157.


 

سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان رضيَ اللهُ عَنه شخصيّته وعَصْره للشيخ علي محمد الصلابي