المبحــث الخامس : الواجب على المسلمين تجاه المستأمنين
 
المبحــث الخامس : الواجب على المسلمين تجاه المستأمنين

جعل الإسلام في شريعته الغراء حقوقاً واجبة للمستأمنين يجب الوفاء بها وأداؤها تجاههم، وأرشد المسلمين إلى كيفية التعامل معهم، كما أوجب عليهم حقوقاً تجاه المسلمين الذين أمنوهم في ديارهم. فمن تلك الحقوق الواجبة على المسلمين تجاههم:
1 - العدل وعدم التعدي
العدل معهم وعدم التعدي عليهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بل ولا يجوز ترويعهم وإخافتهم، ويعاملون بالعدل والقسط .
قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

(34) .
قال البيضاويُّ: " لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (35) أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا العدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين " (36) .
وقال ابن كثير: " ومن هذا قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه « لما بعثه النبيّ صلى الله عليه و سلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض » (37) .
وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة » (38) (39) . وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم « من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً » (40) رواه البخاري. (41) .
وصور تطبيق هذه التعاليم والأحكام في تاريخ المسلمين كثيرة ومتنوعة، فقد كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة والمعاهدين، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له:" ما نعلم إلا وفاء " أي: وفاء بمقتضى العقد والعهد الذي بينهم وبين المسلمين (42) . ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته يا عبّاس (43) .
قال ابن القيم رحمه الله: " أحكام المستأمن والحربي مختلفة، لأن المستأمن يحرم قتله وتضمن نفسه ويقطع بسرقة ماله، والحربي بخلافه " (44) . وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمناً، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم، بل يحالون للحكم الشرعي، هذه مسائل يحكمها الحكم الشرعي " (45) .
2 - الدعوة إلى الإسلام وبيان أحكامه
دعوتهم إلى الإسلام وبيان أحكامه بعلم وحكمة وأسلوب حسن ، فمن خصائص هذا الدين أنه عالمي الرسالة، ليس مقصوراً على قوم أو بلد أو زمان، قال الله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

(46) .، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنّه قال: « والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِي ّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار » (47) (48) . قال النوويُّ: " فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه و سلم " (49) .
إن من سماحة هذا الدين أنه أذن لغير أهله من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين أن يعيشوا في أرضه مع بقائهم على دينهم وعدم إكراههم على الإسلام، ولم يخل عصر من العصور من وجود غير المسلمين داخل المجتمع المسلم، يعيشون بين المسلمين، وينعمون بالأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يعني بقاؤهم داخل المجتمع المسلم بأي وجه من الوجوه الرضا بما هم عليه من الكفر بالله، فإن الله - تعالى - لا يرضى لعباده الكفر، وإنما أذن الشارع لهم بالبقاء لحكم عديدة منها:
- أن يخالطوا المسلمين ويتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه وينظروا فيها، فيجدوها مؤسسة على ما تحتمله العقول وتقبله، فيدعوهم ذلك إلى الإسلام، ويرغبهم فيه، فيدخلوا فيه، وهذا أحب إلى الله من قتلهم. والمقصود من ذلك أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، وعدم اختلاطهم بالمسلمين يفوت هذه المصلحة، وهي معرفتهم بالإسلام قال السبكي رحمه الله: "وعدم اختلاطهم يبعدهم عن معرفة محاسن الإسلام، ألا ترى من الهجرة إلى زمن الحديبية لم يدخل في الإسلام إلا قليل، ومن الحديبية إلى الفتح دخل فيه نحو عشرة آلاف؛ لا ختلاطهم بهم، للهدنة التي حصلت بينهم فهذا هو السبب في مشروعية عقد الذمة " (50) .
3 - البراءة منهم وعدم موالاتِهم
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: " الولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبّة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد " (51) .
قال تعالى:

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

(52) . قال ابن كثير: " وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا -:

أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ

(53) أي: بريء منهم أيضًا " (54) .
فالواجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ الله ورسوله منه، قال تعالى:

لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ

(55) .
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته من أهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال:

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

(56) .
قال الطبريُّ: " قد كانت لكم أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار ومعاداتِهم وترك موالاتِهم، إلاّ في قول إبراهيم:

لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ

(57) ، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه، قبل أن يتبيَّن أنّه عدوٌ لله، فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه، فتبرؤوا من أعداء الله من المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء " (58) .
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: " الكافر ليس أخًا للمسلم أي: في الدين، والله يقول:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

(59) (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه و سلم « المسلم أخو المسلم » (60) ، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً فلا يجوز، لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العظيم:

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

(61) (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه:

لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

(62). يعني يحبون:

وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ

(63) (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس ".
4- النهي عن مشابَهتهم والأمر بمخالفتهم
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم « من تشبه بقوم فهو منهم » (64) (65) .
قال ابن تيمية: " المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، فالمشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن تورث المشابَهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم، حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة " (66) .
5 - الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة
قال الله تعالى:

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

(67) . وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: « قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها ؟ قال: " نعم، صليها » (68) (69) ، وأنزل الله تعالى فيها:

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ

(70) الآية (71).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - « أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم "إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة "، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إنّي لم أكسكها لتلبسها " فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة » (72) (73) .
قال النوويّ: " وفي هذا دليل لجواز صلة الأقارب الكفار، والإحسان إليهم، وجواز الهدية إلى الكفار" (74) . والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير، قال تعالى:

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا

(75) .
قال قتادة: " لقد أمر الله بالأسارى أن يحسن إليهم، وإنهم يومئذ لمشركون " (76) . وقال الحسن: " كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية " (77) . وقال الطبريّ: " هو الحربي من أهل دار الحرب، يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ " (78).
وأختم هذا المبحث بالبيان الذي صدر من هيئة كبار العلماء تجاه ما حصل في مدينة الرياض وغيرها من تفجيرات أزهقت الأرواح وروعت الآمنين وأتلفت الممتلكات.
فتوى هيئة كبار العلماء:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، أما بعد، فإن مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض يوم الأربعاء 13 / 3 / 1424هـ استعرض حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض مساء يوم الاثنين 11 / 3 / 1424هـ وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس وحرمت الاعتداء عليها، وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل.
ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة، والأنفس المعصومة في دين الإسلام إما أن تكون مسلمة فلا يجوز بحال الاعتداء على النفس المسلمة وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام، يقول الله تعالى:

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا

(79) .
ويقول سبحانه:

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا

(80) .... الآية . قال مجاهد رحمه الله:" في الإثم "، وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق.
ويقول النبي صلى الله عليه و سلم « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة » (81) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
ويقول النبي صلى الله عليه و سلم « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله » (82) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قــال: « لزوال الدنيــا أهـون عند الله من قتل رجـل مسلم » (83) . ونظر ابن عمر - رضي الله عنهما - يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقـال: " ما أعظمـك وأعظـم حـرمتــك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك ".
كل هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب، إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية، فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق، يقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: « بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله !! قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم » (84) . متفق عليه وهذا لفظ البخاري. وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك وهم مجاهدون في ساحة القتال لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة رضي الله عنه قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم عذره وتأويله، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين، وعظيم جرم من يتعرض لها.
وكما أن دماء المسلمين محرمة، فإن أموالهم محرمة محترمة، بقول النبي صلى الله عليه و سلم « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا » (85) أخرجه مسلم، وهذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه و سلم في خطبة يوم عرفة، وأخرج البخاري ومسلم نحوه في خطبة يوم النحر.
وبما سبق يتبين تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق، ومن الأنفس المعصومة في الإسلام أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: « من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما » (86) أخرجه البخاري.
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم « لم يرح رائحة الجنة » (87) . وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي: « المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم » (88) . ولما أجارت أم هانئ - رضي الله عنها - رجلا مشركا عام الفتح وأراد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن يقتله ذهبت للنبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته، فقال: « قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ » (89) . أخرجه البخاري ومسلم.
والمقصود أن من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولي الأمر لمصلحة رآها فلا يجوز التعرض له، ولا الاعتداء لا على نفسه ولا ماله.
إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه :
1 - أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
2 - أن فيه قتلا للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
3 - أن هذا من الإفساد في الأرض.
4 - أن فيه إتلافا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد، لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه. وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم « من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة » (90) أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم « من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا » (91) . وهو في البخاري بنحوه.
ثم ليعلم الجميع أن الأمة الإسلامية اليوم تعاني تسلط الأعداء عليها من كل جانب، وهم يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم، واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرا لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الجرم.
كما أنه يجب العناية بالعلم الشرعي المؤصل من الكتاب والسنة، وفق فهم سلف الأمة، وذلك في المدارس والجامعات وفي المساجد ووسائل الإعلام، كما أنه تجب العناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي على الحق، فإن الحاجة بل الضرورة داعية إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، وعلى شباب المسلمين إحسان الظن بعلمائهم والتلقي عنهم، وليعلموا أن مما يسعى إليه أعداء الدين الوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها، وبينهم وبين حكامهم، حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم، فالواجب التنبه لهذا.
وقى الله الجميع كيد الأعداء، وعلى المسلمين تقوى الله في السر والعلن والتوبة الصادقة الناصحة من جميع الذنوب، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. نسأل الله أن يصلح حال المسلمين، ويجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء: رئيس المجلس عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، صالح بن محمد اللحيدان، عبد الله بن سليمان المنيع، عبد الله بن عبد الرحمن الغديان، د. صالح بن فوزان الفوزان، حسن بن جعفر العتمي، محمد ابن عبد الله السبيل، د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، محمد بن سليمان البدر، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، محمد بن زيد آل سليمان، د. بكر بن عبد الله أبو زيد (لم يحضر لمرضه)، د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان (لم يحضر)، د. صالح بن عبد الله بن حميد، د. أحمد بن علي سير المباركي، د. عبد الله بن علي الركبان، د. عبد اللـه بن محمد المطلق.