المبحث الثاني سياسة عثمان مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم
 
الفصل الخامس مؤسسة الولاة في عهد عثمان

المبحث الثاني سياسة عثمان مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم

أولاً: سياسة عثمان مع الولاة:

تولى عثمان الخلافة في بداية سنة 24هـ، وكان ولاة عمر ينتشرون في الأمصار الإسلامية, وقد أقرهم عثمان في ولاياتهم عاما كاملا، ثم باشر بعد ذلك العزل والتعيين في هذه الأمصار بمقتضى سلطته وحسب ما يراه في مصلحة المسلمين، ولعل عثمان في ذلك قد اتبع وصية عمر التي أوصى فيها: أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.([1]) وكان عثمان في سياسته مع الولاة يعتمد على مشورة الصحابة في كثير من تصرفاته، كما أنه قام بضم بعض الولايات إلى بعضها لما يراه في مصلحة المسلمين، ولذلك قد حدد الولاة إلى حد ما في بعض المناطق؛ فقد ضم البحرين إلى البصرة، كما ضم بعض ولايات الشام إلى بعضها الآخر نتيجة لوفاة بعض الولاة أو طلبهم الإعفاء من العمل.

وقد كان عثمان دائم النصح لولاته بالعدل والرحمة بين الناس، فكان أول كتبه إلى ولاته بعد مبايعته خليفة للمسلمين: أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوا الذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا بالوفاء([2]).

ونحن نرى من هذا أن عثمان حدد لولاته معالم السياسة التي يجب أن يسيروا عليها، من إعطاء الحقوق للمسلمين ومطالبتهم بما عليهم من واجبات وإعطاء أهل الذمة حقوقهم ومطالبتهم بما عليهم من واجبات، وبالوفاء حتى مع الأعداء وبالعدل في ذلك كله، وأن لا يكون همهم جباية المال.([3]) كما كان عثمان يكتب إلى عماله ببعض التعليمات الخاصة في الأمور المستجدة التي تتعلق بإدارتهم للولايات، إضافة إلى كتبه العامة والتي كان يصدر فيها تعليمات محددة يلتزم بها الجميع، ومن ذلك: إلزامه الناس في الولايات بالمصاحف التي كتبت في المدينة على ملأ من الصحابة؛ حيث أرسل مصاحف إلى كل من الكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والبحرين واليمن والجزيرة بالإضافة إلى مصحف المدينة([4]), وقد أمر عثمان بجمع المصاحف الأخرى وإحراقها وذلك بموافقة الصحابة في المدينة، كما ورد ذلك عن علي t([5])، كما كان عثمان حريصا على أن يتنافس الأمراء فيما بينهم في الجهاد وفتح بلدان جديدة، فقد كتب إلى عبد الله بن عامر في البصرة وإلى سعيد بن العاص في الكوفة يقول: أيكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها، مما دفع ابن عامر إلى فتح خراسان وسعيد بن العاص إلى فتح طبرستان.([6]) وقد كان عثمان يشترط بعض الشروط على الولاة أحيانا ليضمن أن يكون تصرفهم في صالح المسلمين، ومثال ذلك أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عثمان يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص، فكتب إليه عثمان: فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فاركبه مأذونا لك وإلا فلا، فركب البحر وحمل امرأته([7]).

ثانيًا: أساليب عثمان لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم:

اتبع عثمان عدة أساليب لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم، من ذلك:

1- حضوره لموسم الحج:

كان عثمان يحرص على الحج بنفسه ويلتقي بالحجاج، ويسمع شكاياتهم وتظلمهم من ولاتهم، كما أنه طلب من العمال أن يوافوه في كل موسم، وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم([8])، وكان ذلك استمرارا لما كان عليه الحال أيام عمر من لقاء سنوي بين الخليفة والولاة والرعية([9]).

2- سؤال القادمين من الأمصار والولايات:

وتعتبر هذه الطريقة من أيسر الطرق؛ حيث إنها لا تكلف الخلفاء كثيرا، كما أنها تأتي في كثير من الأحيان دون ترتيب مسبق، وقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين الأربعة عملهم بهذه الطريقة، وكان وجود الخليفة في المدينة المنورة خلال عصور الخلفاء الثلاثة الأول مما يساعد الخليفة، نظرا لكثرة الوافدين إلى المدينة للزيارة، وخصوصا أثناء موسم الحج([10]).

3- وجود أناس من أهل البلاد يكتبون إلى الخليفة:

فقد استقبل عثمان الكتب التي أرسلها بعض الرعية من الأمصار إلى المدينة بما فيها شكاوي؛ فقد استقبل كتابا أرسله أهل الكوفة إليه، وكذلك كتابا أرسله أهل مصر إليه، كما استقبل كتبا أخرى أرسلها أناس من الشام، وقد اطلع عثمان على ما في هذه الكتب وعالج ما فيها([11]).

4- إرسال المفتشين إلى الولايات:

بعث عثمان العديد من المفتشين إلى بعض الولايات للاطلاع على أحوالها ومعرفة ما يشاع عن ولاته من ظلم للرعية، وقد جاء أولئك المفتشون بتقارير وافية عن أحوال أولئك الولاة([12])؛ فقد أرسل عمار بن ياسر إلى مصر، ومحمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة ابن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، بالإضافة إلى إرساله رجالا آخرين إلى أماكن أخرى([13]).

5- السفر إلى الولايات والاطلاع على أحوالها مباشرة:

كان عثمان يزور مكة في موسم الحج، ويطلع على أحوالها، ويقابل الولاة بها وحجاج الأمصار، ويسأل عن أخبارهم وأحوالهم.

6- طلب الموفدين من الولايات لسؤالهم عن أمرائهم وولاتهم:

كان الخلفاء الراشدون في كثير من الأحيان يطلبون من الولاة أن يبعثوا إليهم بأناس من أهل البلاد ليسألوهم، وقد تكرر ذلك من عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، أما أبو
بكر فكان مشغولا بأمور جهادية منعته من ذلك، كما كان لقصر مدة خلافته دور في قلةهذه الحوادث([14]).

7- استقدام الولاة وسؤالهم عن أحوال بلادهم:

وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، و قد كانت الاتصالات المستمرة قائمة بين الخليفة عثمان وبين ولاته لبحث مختلف شئون الدولة، ومن أهم هذه الاتصالات: الاجتماع الذي عقده عثمان مع ولاته في المدينة؛ حيث دعا ولاة البصرة والكوفة والشام ومصر وغيرهم، ودعا كبار الصحابة وعقد معهم اجتماعا بحث فيه بوادر الفتنة التي بدأت تظهر، وتعرف على آراء أولئك الولاة في الفتنة وكيفية علاجها، فقد أدلى كل وال من هؤلاء برأيه في علاج تلك الظاهرة([15]).

8- المراسلة مع الولاة:

وطلب التقارير منهم عن أحوال رعيتهم وأحوال بلادهم، وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصور الخلفاء الراشدين الأربعة، وكانت بالأحرى أهم الطرق خلال عصر أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما([16]).

هذه أهم الأساليب التي اتبعها عثمان في متابعة ومراقبة ولاته، وقد كان حريصا على قيام الولاة بواجباتهم، وفي حالة وقوع أي مخالفة منهم، فإنهم يؤدبهم على ذلك الخطأ إذا وصل إلى علمه، وإذا ثبت عليه ارتكابه شرع في عقوبته دون النظر إلى حسن ظنه في العامل، ومن ذلك جلده للوليد بن عقبة حد الخمر بعد اكتمال شروطه وبغض النظر عن صدق الشهود من عدمه([17])، وقام بعد جلده بعزله عن ولاية الكوفة.([18]) وقد درج عثمان أن يكتب إلى أهل الأمصار عن تعيين وال جديد عليهم ليوصيهم به كما أوصاه بهم، وكذلك كان يكتب في كثير من الأحيان إلى العامة في الأمصار ناصحا، حتى يساعد الولاة في تسيير أمور الرعية، ومن ذلك الكتاب الذي أرسله عثمان إلى الأمصار، يقول فيه: أما بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولا لعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم, فيا من ضرب سرا وشتم سرا.. من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فيأخذ بحقه؛ حيث كان مني أو من عمالي... أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار، أبكى الناس ودعوا لعثمان([19]).

ثالثـًا: حقوق الولاة:

استقر في عهد الخلفاء الراشدين بأن للولاة حقوقا مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، بالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة المصلحة العامة، ومن أهم هذه الحقوق:

1- الطاعة في غير معصية الله:

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59].

قال القرطبي: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية فأمر الرعية بطاعته جل وعلا أولاً وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم([20]). وفي العهد الراشدي خصوصا والمجتمع الإسلامي عموما، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا فإن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة الله ورسوله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» ([21]).

2- بذل النصيحة للولاة:

من منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأساس الذي تقره الأمة بأكملها، والذي وردت الأوامر به من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه العموم، ومنها ما خص الولاة به؛ حيث أمرت الأحاديث النبوية ببذل النصيحة لهم، وقد دأب الخلفاء الراشدون الأربعة على الكتابة لولاتهم باستمرار يبذلون لهم النصيحة، والنصوص الواردة في هذه كثيرة يصعب حصرها([22]).

3- يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه:

والصدق في ذلك سواء ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء, أو ما كان متعلقا بعمال الوالي وموظفيه، والعجلة في ذلك قدر المستطاع، خصوصا ما كان متعلقا بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك، من منطلق الاشتراك في المسئولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة([23]).

4- مؤازرة الوالي في موقفه:

وعندما اندلعت الفتنة وطلب أصحابها من عثمان عزل بعض ولاته رفض عثمان ذلك، وكان هذا التعضيد يخدم الهدف العام للدولة الإسلامية ويمنع الاضطراب، ولا يعني ذلك عدم الالتفات إلى الشكاوي ومؤازرة الولاة بدون تحقق؛ بل إن هذا التعضيد من الخلفاء إنما يأتي بعد تحقق وتثبت من تلك الشكايات، وبعد محاسبة دقيقة قد تتطلب إرسال لجان خاصة من بعض الصحابة للتحقيق في تلك القضايا، كما أن المؤازرة للوالي واجبة من قبل الخليفة، فهي كذلك واجبة من قبل الرعية، وأن على الناس احترامهم وتقديرهم([24])، وإن كان عثمان قد عزل بعض الولاة وذلك لما رآه من مصلحة الرعية.

5- احترامهم بعد عزلهم:

ومن ذلك ما فعله عثمان مع أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، بل نلاحظ أن عثمان استشار عمرو بن العاص في مسائل الدولة الكبرى بعد عزله، وهذا احترام فائق من عثمان لمن عزلهم من الولاة.

6- مرتبات الولاة:

ومن حقوق الولاة مرتباتهم التي يعيشون عليها، ومبدأ الأرزاق والرواتب للعمال متفق عليه بين الخلفاء الراشدين اقتداء بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولئن كانت الروايات قد اقتصرت على ذكر مرتبات بعض العمال فقط، فإن المفهوم أن جميع العمال كانت لهم مرتبات خلال عصور الراشدين، ومعظم الروايات التي وردت في هذا الموضوع كانت تركز بالدرجة الأولى على عصر عمر بن الخطاب؛ حيث ورد ذكر مقدار أرزاق بعض الولاة في عصره، وقد مضى عثمان وعلي -رضي الله عنهما- على سيرة من سبقهما من الخلفاء في فرض الأرزاق للعمال والولاة، إلا أن عصر عثمان كان على ما يبدو أكثر توسعا في بذل الأعطيات للناس عموما ومن ضمنهم الولاة؛ نظرا لزيادة الدخل في بيت المال نتيجة الفتوح الواسعة التي قام بها ولاة عثمان في المشرق وفي أرمينية وأفريقية وغيرها، بل إن عثمان كان يعطي مكافآت مقطوعة للعمال خاصة وبارزة؛ فقد أعطى لعبد الله بن سعد بن أبي السرح خمس الخمس من الغنيمة جزاء فتوحه في شمال أفريقية؛ حيث قال له: إن فتح الله عليك غدًا أفريقية فلك ما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا.([25]) وعلى كل حال فإن إعطاء الأرزاق للعمال وإغناءهم عن الناس كان مبدأ إسلاميا فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرغوهم للعمل ولمصلحة الدولة([26]).

رابعًا: واجبات الولاة:

1- إقامة الدين، ومن أبرز تلك الواجبات:

أ- نشر الدين الإسلامي بين الناس:

حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة، وقد كان الولاة يقومون بهذه المهمة مع وجود من يساعدهم في بداية الفتوح في عهد أبي بكر t، ثم بدأت الأمصار تعتمد على معلمين وفقهاء قدموا لهذه المهمة بعد التوسع وبناء الأمصار في عهد عمر، وقد تأكد وجود المعلمين بعد ذلك خلال الفترة الأخيرة من خلافة عمر، وخلال فترة خلافة عثمان وعلي، وذلك لكثرة السكان في الأمصار وكثرة طلاب العلم، وانشغال الولاة بأمور مختلفة، وتوسع الولايات؛ حيث كانت تتبع الولاية الواحدة العديد من الأمصار التي كان الناس فيها بحاجة إلى فقهاء ومعلمين([27]).

ب- إقامة الصلاة:

كان الخليفة نفسه طيلة عصر الخلفاء الراشدين الأربعة هو الذي يقيم صلاة الجمعة والجماعة والأعياد في البلد الذي يقيم فيه، ويخطب في الناس الجمعة والأعياد والمناسبات الأخرى، وكذلك نوابه يقومون بهذه المهمة في أمصارهم، وطيلة عهد الخلفاء الراشدين كان الولاة يخطبون في الناس بأنفسهم ويؤمونهم في الصلاة([28]).

ج- حفظ الدين وأصوله:

كان الخلفاء الراشدون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يشعرون بعظم الواجب الملقى عليهم في حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعملون جاهدين في إحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والقضاء على البدع، والعمل على احترام دين الله واحترام رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد كيد من يحاولون الدس على هذا الدين. وقد عمل عثمان على كتابة المصحف الشريف وإرسال نسخ منه إلى الأمصار، وأمر ولاته بإحراق ما لدى الناس من مصاحف أخرى من قبيل المحافظة على أهم أصول الدين، وهو القرآن الكريم.([29]) وقد بذل ولاة عثمان جهودا كبيرة في محاربة السبئية الذين جاءوا بآراء غريبة على الإسلام وضيقوا عليهم وطاردوهم.([30]) وعلى العموم فإن المحافظة على الدين واحترامه كان من أهم الواجبات الموكلة إلى الولاة([31]).

د- تخطيط وبناء المساجد:

حينما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قباء قام ببناء أول المساجد في الإسلام، وبعد وصوله إلى المدينة بدأ ببناء مسجده فيها، وحينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث بالولاة إلى البلدان كان هؤلاء الولاة يقومون ببناء المساجد فيها، واستمر الخلفاء الراشدون بعد ذلك في بناء المساجد في البلدان والأمصار التي فتحها المسلمون، وإن كان الولاة لم يقوموا بتأسيس جميع هذه المساجد فإن لهم دورا في إنشاء المساجد الرئيسية في معظم البلدان التابعة لولاتهم وخصوصا الجوامع منها([32]).

هـ- تيسير أمور الحج:

كان الولاة على البلدان في صدر الإسلام مسئولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر؛ حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي، ولم يكتفِ بعض الأمراء بأمور الترتيب؛ بل نجد منهم من عمل على تأمين المياه في الأماكن التي يسلكها الحجاج من ولايته، فهذا عبد الله بن عامر بن كريز أجرى المياه في طريق حجاج البصرة حينما كان عاملا عليها لعثمان بن عفان؛ حيث أوجد المياه في الطريق من البصرة إلى مكة.([33]) وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده، يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج فداخلة في أحكام إمارته؛ لأنه من جملة المعونات التي تنسب إليه([34]).

و- إقامة الحدود الشرعية:

إن إقامة الحدود على المخالفين لأوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجب ديني ملقى على الولاة، وهو من أهم الأمور الموكلة إليهم سواء منها الحدود المتعلقة بمن يتعرض لمنافع المسلمين العامة أو من يتعرض بالضرر لأقوام معينين([35])، وقد قام عثمان وولاته بإقامة الحدود الشرعية في عهده t.

2- تأمين الناس في بلادهم:

المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق([36])، مما يحد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم، وبالتالي تقل الحوادث الأمنية من القتل أو السرقة أو قطع الطريق وما إلى ذلك؛ بل الأمر أيضا يشمل ما يلقيه الناس من أقوال ضد بعضهم البعض من قذف وغيره، فإن إقامة الحد فيها يمنع من الاعتداء الأدبي على الناس في أعراضهم ومحارمهم, ولم يقتصر الأمر على تأمين الناس بعضهم من بعض؛ بل إن العمال -وبأمر من الخلفاء- يعملون على تأمين رعاياهم من الحشرات والهوام كالعقارب وغيرها، يقول البلاذري: كتب عامل نصيبين إلى معاوية وهو عامل عثمان على الشام والجزيرة يشكو إليه أن جماعة من المسلمين ممن معه أصيبوا بالعقارب فكتب إليه يأمره أن يوظف على أهل كل حيز من المدينة عدة من العقارب مسماة في كل ليلة ففعل، وكانوا يأتونه بها فيأمر بقتلها.([37])

3- الجهاد في سبيل الله:

إن السمة العامة لعهد الخلفاء الراشدين أن الولاة هم قادة الجهاد في تلك البلدان، كما أن الولاة في عهد عثمان كان لهم دور كبير في الفتوح ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري الذين واصلوا الفتوح في المشرق، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي واصل الفتوح في شمال أفريقية، ومعاوية بن أبي سفيان الذي واصل الفتوح في نواحي أرمينية وبلاد الروم، وهكذا فإننا نرى أن الأمراء في عهد الخلفاء الراشدين كانوا مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، ولا شك أن الجهاد كان مصحوبا بعمليات معينة تخدم الشئون العامة له، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم هذه الأعمال التي جرت من قبل الأمراء، منها:

أ- إرسال المتطوعين من قبل الأمراء إلى الجهاد: فقد كان ولاة اليمن والبحرين ومكة وعمان يبعثون بالمجاهدين خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان([38]).

ب- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: كان ولاة الشام يدافعون الروم طيلة عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك الحال عند ولاة العراق الذين دافعوا الفرس حتى تمكنوا من قتل آخر ملوكهم في عصر الخليفة عثمان بن عفان t.

ج- تحصين البلاد: كان عثمان يأمر بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع القطائع لمن ينزلها من المسلمين للمساعدة في شحنها بالرجال([39]).

د- تتبع أخبار الأعداء: فقد قام الولاة بتتبع أخبار الأعداء وتوجيه الضربات الموجعة إليهم، واستطاعوا أن يخترقوا صفوفهم ويزرعوا عيونا تابعة لهم.

هـ- إمداد الأمصار بالخيل: كانت الخيل ذات أهمية خاصة في الجهاد، وقد اهتم المسلمون بتربيتها منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم واعتنوا بها عناية خاصة، وقد وضع عمر سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها.([40]) وسار عثمان على نفس السياسة العمرية في اهتمامه بالخيل، فقد كانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية.

و- تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد: اهتم الخلفاء الراشدون بتربية الأولاد وتعليمهم ما يفيدهم في حياتهم الجهادية مستقبلا.

ز- متابعة دواوين الجند: سار عثمان على نهج السياسة العمرية في اهتمامه بدواوين الجند، وقد اهتم اهتماما بدواوين الأمصار لاعتقاده بأن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصا القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار، وقد كان الولاة على البلدان مسئولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب؛ فقد كانت مسئوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسئولية الخليفة باعتبارهم نوَّابًا([41]).

ح- تنفيذ المعاهدات: إن الفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين صاحبتها مراسلات مع الأعداء، ومعاهدات ومصالحات كثيرة بين المسلمين وأهل البلاد المفتوحة، وقد كان الأمراء على البلدان بصفتهم قادة الجند مسئولين مباشرة عن عقد مثل هذه المصالحات
وعن تنفيذها([42]).

4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:

اتبع الخلفاء الراشدون منذ عصر أبي بكر الصديق طريقة جديدة لتوزيع الأعطيات على المسلمين من موارد بيت المال المختلفة، وقد كانت في البداية غير محددة بأوقات معينة، ولكن في عهد عمر تغيرت بعد وضعه للدواوين في الأمصار المختلفة؛ حيث بدأ توزيع الأعطيات يأخذ شكلا دوريا منتظما سار عليه عثمان t، ولم يكتف الخلفاء وولاتهم في العهد الراشدي بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط؛ بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة([43]).

5- تعيين العمال والموظفين:

كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي، حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من قبلهم عمالا وموظفين في تلك المناطق، وفي عصر عثمان أصبح هؤلاء العمال التابعون للولاة يحكمون مناطق كبيرة نظرا لتوسع الولايات نتيجة الفتوح وانضمام أقاليم كبيرة بأكملها إلى ولايات كانت محددة في السابق كالبصرة والكوفة والشام وغيرها، وبالتالي فإن توزيع العمال وإدارتهم وتنظيمهم كانت مهمة كبيرة من المهام التي يقوم بها ولاة البلدان.

6- رعاية أهل الذمة:

كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقا من الأوامر الشرعية في هذا الجانب من واجبات الوالي([44]).

7- مشاورة أهل الرأي في ولايته:

سار الخلفاء على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاورة أهل الرأي من الصحابة؛ حيث كانوا يعقدون مجالس لكبار الصحابة، يستشيرونهم في مختلف الأمور([45])، كما كانوا يأمرون ولاتهم باستشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لأخذ آرائهم([46]).

8- النظر في حاجة الولاية العمرانية:

اشتهر عن الخلفاء الراشدين وولاتهم عنايتهم بحاجة السكان في النواحي العمرانية والزراعية، وفي عهد عثمان قام عبد الله بن عامر واليه على البصرة بحفر الآبار والعيون ليس في ولاية البصرة فحسب بل في أماكن أخرى عديدة([47]).

9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:

كان الولاة من منطلق تعاليم الإسلام الشاملة يراعون هذا الجانب بكل ما فيه من تعليمات، إلا أن ولاة ذلك العصر -وبتوجيه من الخلفاء الراشدين- قاموا ببعض الأعمال الاجتماعية التي يصعب أن يقوم بها من هم في مثل منصبهم، كما حرص الخلفاء على أن ينزلوا الناس على منازلهم، وأن يحترم الولاة أهل الشرف والسابقة في الإسلام، ومن ذلك أن عامل عثمان على الكوفة كتب إليه يشكو من غلبة الأعراب والروادف على أهل الشرف والبلاء والسابقة في الإسلام،([48]) فكتب إليه عثمان: أما بعد، ففضِّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل([49]).

10- أوقات عمل الوالي:

اشتهر عن الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة أنه لم يكن لداره باب، وأنه كان يستقبل الناس في جميع الأوقات، وهذا يدل على تمتع الناس بحرية مراجعة الأمير من غير حرج متى أرادوا ذلك لحاجة([50])؛ فقد كان للوالي قسم تابع لبيته مفتوح للناس متى أرادوا المجيء إليه مفصول عن أهله وأولاده.


([1]) سير أعلام النبلاء (2/391).

([2]) تاريخ الطبري (5/244).

([3]) الولاية على البلدان (1/215).

([4]) تاريخ المدينة، أبو زيد البصري (3/997). (2) المصدر نفسه (3/995، 996).

([6]) تاريخ اليعقوبي (2/166).

([7]) الولاية على البلدان (1/216), الخراج وصناعة الكتابة، ص306.

([8]) الولاية على البلدان (1/216) نقلا عن تاريخ الطبري.

([9]) المصدر نفسه (1/216).

([10]) الولاية على البلدان (2/122).

([11]، 3، 4) المصدر نفسه (1/217).

([14]) المصدر نفسه (2/122).

([15]) الولاية على البلدان (2/123). (2) المصدر نفسه (2/122).

([17]) المصدر نفسه (2/126). (4) المصدر نفسه (2/217).

([19]) تاريخ الطبري (5/349). (2) تفسير القرطبي (5/259).

([21]) البخاري، كتاب الأحكام، رقم (7145).

([22]) الولاية على البلدان (2/56).

([23]) الولاية على البلدان (2/57).

([24]) المصدر نفسه (2/58).

([25]) تاريخ الطبري (5/252).

([26]) الولاية على البلدان (2/64).

([27]) المصدر نفسه (2/66).

([28]) الولاية على البلدان (2/67). (2) تاريخ المدينة (3/996-999).

([30]) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، سليمان العودة، ص214.
([31]، 5) الولاية على البلدان (2/69).
([33]) الولاية على البلدان (1/192).
([34]) الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، ص33.

([35]) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص66.

([36]) الولاية على البلدان (2/71).

([37]) فتوح البلدان، البلاذري، ص183.

([38]) الولاية على البلدان (2/72).

([39]) المصدر نفسه (2/73).

([40]) المصدر نفسه (2/74).

([41]) الولاية على البلدان (2/75). (2) المصدر نفسه (2/77).
([43]) المصدر نفسه (2/79).

([44]، 2، 3) الولاية على البلدان (2/80).

([47]) المصدر نفسه (2/81).

([48]) الولاية على البلدان (2/82)، تاريخ الطبري (5/280).

([49]) الولاية على البلدان (2/82).

([50]) المصدر نفسه (2/82).

 

سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان رضيَ اللهُ عَنه شخصيّته وعَصْره للشيخ علي محمد الصلابي