الفصل السادس أسباب فتنة مقتل عثمان
 
الفصل السادس أسباب فتنة مقتل عثمان

المبحث الأول أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداثوالحكمة من إخباره صلى الله عليه وسلم بوقوعها

أولاً: أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث في الجمل وصفين وغيرهما:

ورد عن كثير من السلف والعلماء الأمر بالتوقف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصحابة، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل، مع الترضِّي عنهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، مأجورون إن شاء الله، والحذر من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم؛ لما يجر ذلك من الطعن في الشريعة؛ إذ هم حملتها وحاملوها إلينا، ومن ذلك ما روى عن عمر بن عبد العزيز أنه سئل عن أهل صفين فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب لساني فيها.([1]) وسئل أحدهم عن ذلك فقال متمثلا قوله تعالى: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [البقرة: 134].

وهذا النهي معلل، علته الخوف مما ذكرناه من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم، وما يستوجب ذلك من غضب الله ونقمته، فإذا انتفت هذه العلة فالظاهر أنه لا حرج في ذلك، إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدي إلى الطعن فيهم مطلقا، فلا بأس من دراسة ذلك والتعمق في أسبابه ودوافعه وتفصيلاته الدقيقة ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصحابة، ثم على من بعدهم، وقد كتب من العلماء عن الفتنة، أمثال: ابن كثير والطبري وغيرهما حول أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام، وفصلوا في قضايا كثيرة تتعلق بتلك الفتنة، ومنهم من ذهب إلى حد تخطئة أحد الطرفين، أو كليهما اعتمادا على روايات ونصوص كثيرة اختلط فيها الصحيح بغيره.([2]) وهناك أسباب تدعو علماء أهل السنة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج التي وقعت في صدر الإسلام والبحث عن تفاصيلها، ومن هذه الأسباب:

1- أن المؤلفات المعاصرة التي تناولت أحداث الفتنة بين الصحابة والتابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواع:

أ- مصنفات تربى أصحابها على موائد الفكر الغربي الحاقد على التاريخ الإسلامي, أو الجاهل بالتاريخ الإسلامي، فلم يروا فيه شيئا جميلا، فراحوا يطعنون في الصحابة والتابعين بطريقة تخدم أهداف أعداء الإسلام وخصومه، الذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها، وإعطائها تفسيرات تطعن في جموع الصحابة، وتضرب الإسلام في أصوله، وتجعل من هذه الأحداث صراعا سياسيا على مناصب وكراسي، تخلي فيه الصحابة عن إيمانهم وتقواهم وصدقهم مع الله، وانقلبوا إلى طلاب دنيا، وعشاق زعامة، لا يهمهم أن تراق الدماء، وتزهق الأرواح وتسلب الأموال وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقق لهم ما يريدون من الرياسة والزعامة.

وممن تولى كبر هذه الفرية طه حسين (الفتنة الكبرى) ([3])، الذي هو بحق فتنة كبرى على عقول الناشئة من أبناء المسلمين؛ فقد راح طه حسين يشنع على الصحابة ويشكك في نياتهم، ويتهمهم باتهامات مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام والمسلمين.([4]) وقد تأثر الكثير بمنهجه، ويبدو أن أمثال هؤلاء اعتمدوا على الروايات التاريخية التي أوردها المؤرخون كالطبري وابن عساكر وغيرهما، والتي اختلط فيها الغث بالسمين، والكذب بالصدق، أخذها دون مراعاة لمنهج هؤلاء في مصنفاتهم، وهذا خطأ كبير.([5]) وقد تأثرت هذه الكتابات بالفكر الرافضي والكتابات الشيعية الرافضية للتاريخ الإسلامي([6])؛ فقد تعمد الروافض الإساءة في كتاباتهم للتاريخ الإسلامي، كما في روايات وأخبار الكلبي([7]), وأبى مخنف([8]), ونصر بن مزاحم المنقري([9]), والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء، فيعرف أهل العلم حالها.([10]) وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه. وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية (العواصم) إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية, وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه، وتسويد صفحاته الناصعة([11]).

ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها العلامة محب الدين الخطيب، لقد سود شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسبِّ أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين.([12]) وكانت هذه المادة (الرافضية) الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفيما كتبه شيوخهم في القديم؛ كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير، هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيا، والذي يرى في الغرب قدوته وأمثولته من المستغربين، فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله، وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله. وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالتشيع لهي موضوع مهم يستحق الدراسة والتتبع، لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم (ت 456هـ) ([13]).

ب- مصنفات لبعض علماء هذه الأمة من المعاصرين، وهي مفيدة إجمالا، ولكن طريقة عرضهم للأحداث وتفسيرهم لمواقف بعض الصحابة والتابعين فيها كثير -أو بعض- من عدم الإنصاف، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في كتابه (الخلافة والملك)، وما دونه الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- في كتابه (تاريخ الأمم الإسلامية) و(الإمام زيد بن علي)، فالكتابان مشحونان بكثير من التحامل على مقام بعض الصحابة والطعن على خلفاء بني أمية، وتنقصهم وتجريدهم من أية خصلة حميدة أو عمل صالح.([14]) ويبدو أن أمثال هؤلاء العلماء لم يحققوا في الروايات التاريخية، فتورطوا في الروايات الرافضية الشيعية وبنوا عليها تحليلاتهم واستنتاجاتهم، غفر الله لنا ولهم.

ج- مصنفات حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتعديل في نقد الروايات التاريخية وعرضها على أصول منهج المحدثين من حيث السند والمتن من أجل تمييز صحيحها من سقيمها, وسليمها من عليلها.

وفي هذه المؤلفات محاولة جيدة وجهد مشكور للوقوف في وجه هذا الزيف، وتفسير الأحداث التفسير الصحيح الذي لا يتعارض مع فضل الصحابة وإيمانهم وجهادهم([15]), ومن هذه المؤلفات الجيدة ما كتبه الدكتور يوسف العش في (تاريخ الدولة الأموية)، وما كتبه محب الدين الخطيب تعليقا على كتاب (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي، وما كتبه صادق عرجون في كتابه (عثمان بن عفان)، وما سطره الدكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام)، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه (الخلافة الراشدة)([16]), وما كتبه عثمان الخميس في كتابه (حقبة من التاريخ)، وما كتبه الدكتور محمد حسن شراب في كتابه (المدينة النبوية.. فجر الإسلام والعصر الراشدي)، وما قام به محب الدين من تحقيقات نافعة وتعليقات صائبة على كتاب (العواصم من القواصم) و(المنتقى)، وغيرها من الكتب والبحوث والرسائل التي سارت على نفس المنهج؛ فقد ظهر من هذا البيان شدة الحاجة إلى وجود مؤلفات ومصنفات ترد على هذه المزاعم والأخطاء، ولا يتم الرد على هؤلاء المزيفين للتاريخ الإسلامي ومقام الصحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والروايات الواردة بميزان الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف.([17]) وقد جاء عن ابن تيمية قوله: لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل,
فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل.([18]) وقد ذهب الإمام الذهبي -رحمه الله- في هذا مذهبا آخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب التي فيها هذا الكذب والتشويه لمقام الصحابة، قال رحمه الله: كما تقرر الكف عن كثير مما وقع بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حب الصحابة والترضي عنهم.([19]) وقد أفادنا الذهبي في كلامه فائدة كبيرة، وهو تصريحه بكون أكثر ما ينقل من ذلك في الكتب والدواوين كذبا وزورا وافتراء على مقام الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن اقتراح الذهبي بحرق تلك المؤلفات لم يعد ممكنا؛ فقد انتشرت هذه الكتب، وتولت طباعتها كثير من دور النشر، وكثير من ذوي النيات السيئة فلم يبق إلا وضعها موضع الدراسة وبيان ما فيها من عوار وخطأ وكذب؛ حفظا لأجيال المسلمين من انحراف السلوك والعقيدة([20]).

2- تظهر أهمية دراسة فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقية، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أو خارجية، ومعرفة نصيب كل سبب من الأسباب فيما حدث، وهل هناك أسباب يمكن إدراجها في هذا السبيل؟

إن الذي يقرأ طرفا مما كتب عن هذه الفتنة يحس أن مؤامرة كبرى جرى التخطيط لها، وتعاون المجوس والنصارى واليهود والمنافقون على تنفيذها؛ فقضية تآمر الأعداء ترافق الأمة الإسلامية في كل مراحل تاريخها الطويل([21]).

إلا أن هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعف داخلية أسهمت في التمكين لنجاح هذه المؤامرة. ألا يصح دراسة عهد الصحابة -والحالة هذه- واجبا من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمة الإسلامية، وتحديد مكامن الداء التي أوتيت منها، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمة وتجنبها هذه المزالق في مستقبل حياتها؟ أم كتب عليها أن تظل ترزأ تحت ثقل أدوائها من الداخل وكيد أعدائها
من الخارج([22]).

إن ما وقع من أحداث جسام في فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخية دروسا وعبرا نستضيء بها في حاضرنا؛ لكي نسترشد بها في سعينا الجاد لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حتى تسعد البشرية بدين الله وشرعه، وتخرج من شقاوتها وتعاستها وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى.

ثانيًا: الحكمة من إخباره صلى الله عليه وسلم بوقوعها:

لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه بأن هذه الأمة ستختلف وستتقاتل، وتعددت الأحاديث التي تشير إلى ذلك بإجمال أو بتفصيل، وتنوعت أساليب الإخبار عن ذلك من ذكر لأسباب الفتن أو لنتائجها، أو لبعض أحداثها ووقائعها، أو لمن يثيرونها، وغير ذلك، وكان كثير من هذا البيان والتوضيح منه صلى الله عليه وسلم جوابا لأسئلة الصحابة الكرام الذين كانوا يطرحونها عليه، وهم يشاهدون ويتذوقون النعمة العظيمة التي أفاءها الله عليهم، وهي نعمة الأخوة ووحدة الصف واجتماع الكلمة، فراحوا يسألون عما إذا كانت هذه النعمة ستدوم أم تزول، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي أنها لن تدوم كما هي أحب أن يربيهم على الاستعداد لهذه المحن والفتن حتى يحسنوا التصرف يوم يقدر الله لهذه الفتنة أن تقع، فيسعوا إلى علاجها في وقتها، ومن خلال النظر في جملة الأحاديث الواردة في ذكر الفتن نلمح الحكم التالية([23]):

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر هذه الفتن والوقائع يريد أن يربي الأمة على الاستعداد لها حتى تحسن التصرف يوم تقع هذه الفتن، فتسعى إلى علاجها في وقتها.

2- إن في هذه الأحاديث إشارات إلى من يثيرونها، وأنها أحيانا تكون من قوم ظاهري الإيمان والتشدد، ولكن عقولهم منحرفة، وقلوبهم ملتوية، وهم في جملة حالهم غير مدركين ولا فاقهين([24]).

3- إن هذه الفتنة تكشف المنافقين وتصقل قلوب المؤمنين فيزدادون إيمانا، ويتحفزون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الابتلاء تصقل به النفوس وتتعود المجاهدة وتتعرف الخير فتأمر به والشر فتنهى عنه([25]).

4- إن الإخبار عن هذه الفتن يحمل في مضمونه تحذيرا شديدا من الوقوع فيها, أو ملابسة شيء منها؛ ذلك أن المؤمنين من هذه الأمة -من الصحابة وغيرهم- حين يسمعون خبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن منهم من سيحدث منه القتل، ومنهم من سيتعلق بالدنيا، ومنهم من سيترك الجهاد، ومنهم، ومنهم.. تتحرك في نفوسهم مشاعر المواجهة لهذه الفتن، ويقول كل واحد منهم: لعلي أنجو، ويصبح الموقف منها الخوف على الدوام أن يقع في تلك المهالك على غفلة، والخوف في هذا الباب من أعظم سبل النجاة([26]).

قال ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن أورد عدة أحاديث مرفوعة في وقوع هذا الخلاف والاختلاف في هذه الأمة: وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو من شاء الله له السلامة([27]).

5- إن الإخبار عن هذه الفتن أدق في تحديد سبل النجاة منها؛ فإن الإنسان مهما بالغت في تحذيره من خطر يهدده -دون أن تحدد له هذا الخطر أو تبين له كيفية الوقوع فيه- قد لا يتصور الطريقة التي سيحدث بها، ولا يستبين طبيعة المشكلة التي سيواجهها، وقد يقع في المحذور دون أن يعرف أنه المقصود بالتحذير([28]).

6- إن الإخبار عن تلك الفتن اقترن في بعض الأحاديث بذكر أسبابها، أو بيان نتائجها، أو موقف المسلم منها، وهذا ينفع المسلم أو الأمة كلها في نبذ أسباب الفتن، أو الحكم على وقائع معينة من خلال النظر في نتائجها، أو اتخاذ الموقف السليم منها ابتداء.

7- ثم إن فيها دليلا واضحا على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، يزداد به إيمان الصحابة الذين سمعوا الحديث ثم رأوا تأويله في مواقفهم بعد مدة، ويزداد به إيمان المؤمن -كل مؤمن- في كل عصر ومصر، وهو يعيش وقائع الفتن والاختلافات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعها([29]).

وقد جمع الدكتور عبد العزيز صغير دخان أحاديث الفتنة وقام بدراستها، وبيان صحيحها من ضعيفها في كتابه (أحداث وأحاديث الفتنة الأولى)، ثم استخرج من الأحاديث الصحيحة معاني دلت عليها تلك الأحاديث، منها:

1- أن الفتنة سنة الله -عز وجل- في الأمم، وفي هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهي فتن كقطع الليل المظلم، عمياء صماء بكماء، من سعى فيها هلك في الدنيا والآخرة، ومن كف يده أفلح، لا يكاد يبصر فيها أحد موقفه إلا من أحياه الله بالعلم وزوده بالتقوى، وهداه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه([30]).

2- وفي هذه الأحاديث أن فتنة القتال بين المسلمين أمر واقع لا محالة، ولا سبيل لإنكاره واستغرابه بدءا بما وقع بين الصحابة والتابعين، ومرورا بالعصور الإسلامية إلى اليوم، ولكن الواجب هو معرفة أسباب هذا القتال لتلافيها، أو السعي في إطفاء نار الفتنة حينما تشب في ديار المسلمين، وألا ينبغي أن يقف المسلم منها موقف المتفرج.

3- ومن رحمة الله بهذه الأمة أن يكفر عنها ذنوبها في الدنيا، وليس القتل والفتن التي تنزل ساحتها والزلازل التي تصيبها إلا كفارة لهذه الذنوب.

4- وفي بعض هذه الأحاديث إشارة واضحة وصريحة إلى أن منبت معظم هذه الفتن من قبل المشرق، وكذلك كان الواقع؛ فإن الفتنة الأولى بدأ تحريكها في الكوفة والبصرة، وفتنة الجمل كانت هناك.

5- وفي الفتنة يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا يسير، وتتحكم فيها الشهوات والشبهات، ويصير أهل الإسلام الصحيح غرباء في سلوكهم وتصرفاتهم، ويصبح المتمسك بدينه أشبه ما يكون بالذي يقبض على الجمر أو على الشوك، صابرا محتسبا ما يصيبه من الألم والأذى في سبيل دينه وما يعتقد أنه حق.

6- وفي الفتنة يحفظ الله طائفة من الناس، فلا تلتبس بالفتنة، ولا تتلطخ أيديهم من دماء المسلمين، يسعون في إصلاح ذات البين، والدعوة إلى مبادئ الإسلام الصحيحة من رحمة وأخوة وسيكون موقفهم غريبا بدون شك وسط الجموع الهائجة والأهواء المستحكمة([31]).

7- وفي الفتنة يلعب اللسان دورا أخطر من السيف، بل إن اللسان يكون غالبا منشأ الفتن والبلايا، فرب كلمة شر مسمومة انطلقت فأشعلت النار في القلوب، وهيجت ما كان مستكنا في النفوس، وشحذت العواطف، وكانت سببا في فتن ضارية([32]).

8- وفي الفتنة ينقص العلم؛ إما بموت العلماء أو بسكوتهم واعتزالهم إيثارا للسلامة، أو لانصراف الناس عنهم لسبب من الأسباب، ويسود عندها الجهل، ويتخذ الناس رؤساء جهالا، فيفتوا بغير علم، فيُضِلوا ويَضِلوا، ويسود الرويبضة -وهو التافه من الناس- ويستعلي السفهاء منهم([33]).

9- وفي هذه الأحاديث أن الله -عز وجل- ضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يهلك هذه الأمة بالسنين والمجاعات، وألا يسلط عليهم عدوا فيتمكن منها دائما، مهما كانت قوة هذه العدو وإمكانياته وجبروته، ولكن الأمر الذي لم يضمنه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو ألا تختلف هذه الأمة، وسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه العدو الخارجي؛ إذ أن الأمة إذا اختلفت فيما بينها وقتل بعضها بعضا، ضعفت عوامل القوة فيها، وتمكن منها عدوها فعبث بخيراتها ومقدراتها، ولن يرفع عنها حتى تعود إلى تحقيق القوة في نفسها بالوحدة، وجمع الكلمة، والاحتكام إلى شرع الله([34]).

10- وفي الأحاديث أن وقوع الفتنة واستمرارها مظنة ظهور فرق المنحرفين عن هدى الإسلام، وتمكن أهل الباطل وظهورهم.

11- وفي الفتنة تتغير أخلاق الناس وتتبدل، ويزهد الناس في العمل الصالح، ومشاريع الخير، ويلقى بين الناس العداوة والبغضاء والحقد، ويختلط الأمر على الناس.

12- وفي الأحاديث أن هذه الفتن يسبقها أمن واستقرار وصلاح أحوال الناس المادية والأمنية، حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضُلاَّل الطريق، ويظهر هذا في عهد عثمان t؛ فقد كان عهد أمن واستقرار وتدفق الأموال والخيرات، ثم حدثت فتنة الهرج فقُوض ذلك كله، حتى تبدل الحال من الأمن إلى الخوف.

13- وفي الفتنة يقتل خيار الناس وذوو العقول والرأي فيهم، ويبقى رجرجة من الناس لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.([35]) هذه بعض المعاني من أحاديث الفتن.


([1]) حلية الأولياء (9/114)، عون المعبود (12/274).

([2]) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، د. عبد العزيز دخان، ص79.

([3]) انظر الفتنة الكبرى (عثمان) (علي وبنوه).

([4]،3، 4) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص80.

([7]) محمد بن السائب الكلبي، قال ابن حبان: كان سبئيا من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا. توفي سنة 146 هـ. ميزان الاعتدال (3/558) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل (7/270، 271).

([8]) لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي من أهل الكوفة، قال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم، توفي سنة 157هـ، له تصانيف كثيرة منها: الردة، الجمل، صفين، وغيرها.

([9]) نصر بن مزاحم بن سيار المنقري الكوفي، قال الذهبي: رافضي جلد تركوه، توفي سنة 212هـ. ومن كتبه: وقعة صفين، وهو مطبوع، والجمل ومقتل الحسين, ميزان الاعتدال (4/253).

([10]) أصول مذهب الشيعة الإمامية، ناصر الغفاري (3/1457).

([11]) المصدر نفسه (3/1458).

([12]) المصدر نفسه (3/1459).

([13]) المصدر نفسه (3/1459).

([14]) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص81.

([15]) المصدر نفسه، ص81.

([16]) المصدر نفسه، ص82.

([17]) المصدر نفسه، ص83.

([18]) منهاج السنة (3/192). (2) سير أعلام النبلاء (10/92).

([20]) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص84. (4) المصدر نفسه، ص83.

([22]) المصدر نفسه، ص85.

([23]) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص 68.

([24]) الوحدة الإسلامية، محمد أبو زهرة، ص137.

([25]) المصدر نفسه، ص136، 137.

([26]) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص69.

([27]) المصدر نفسه، ص70. اقتضاء الصراط (1/127).

([28]) المصدر نفسه، ص70.

(3، [29]) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص70.

([30]) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص345.

([31]) المصدر نفسه، ص 346- 348.

([32]، 2، 3) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص348.

([35]) المصدر نفسه, ص349، 350.

 

سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان رضيَ اللهُ عَنه شخصيّته وعَصْره للشيخ علي محمد الصلابي