باب كفارة اليمين
 
باب كفارة اليمين

كفارة اليمين وكفارتها: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ} [المائدة: 89] .


وكفارتها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]

ص : 518



أجمع المسلمون على أن الحانث في يمينه بالخيار، إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وإن شاء أعتق، أي ذلك فعل أجزأه؛ لأن الله سبحانه عطف هذه الخصال بعضها على بعض بحرف " أو " وهى للتخيير، قال الله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ، والواجب في الإطعام إطعام عشرة مساكين؛ لنص الله سبحانه على عددهم، ويعتبر فيهم أربعة شروط:
الأول: أن يكونوا مساكين، وهم الصنف الذي يدفع إليهم في الزكاة، والفقير داخل فيهم؛ لأنه مسكين وزيادة.
وأن يكونوا أحرارا، واختار الشريف أبو جعفر دفعها إلى المكاتب؛ لأنه ممن يجوز دفع الزكاة إليه، ولنا أن الله سبحانه عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين فيدل على أنه ليس بمسكين، والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية؛ ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته، والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته، ما كفايته فإنها حاصلة بكسبه، فإن عجز رجع إلى سيده فاستغنى بإنفاقه، ويخالف الزكاة فإنها تدفع إلى الغني والكفارة بخلافها.
ويشترط أن يكونوا مسلمين، فلا يجوز صرفها إلى كافر، وقال أصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى أهل الذمة؛ لدخولهم في اسم المساكين، وخرج أبو الخطاب وجها لذلك، ولنا أنهم كفار فلم يجز إعطاؤهم كمستأمني أهل الحرب، والآية مخصوصة بهذا فنقيس عليه.
الشرط الرابع: أن يكونوا قد أكلوا الطعام، فإن كان طفلا لم يأكل لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وعنه لا يشترط ذلك، قال أبو الخطاب: هذا قول أكثر الفقهاء؛ لأنه حر مسلم محتاج فأشبه من يطعم، ولنا قوله عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وهذا يقتضي أكلهم، فإذا لم تعتبر حقيقة الأكل وجب اعتبار مظنته، ولا تتحقق مظنة الأكل ممن لم يطعم، ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته جاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام، وهذا يقيد ما ذكروه، فإذا اجتمعت هذه الأوصاف جاز الدفع إليه، غير أن المحجور يقبض له وليه.

فصل في مقدار الإطعام في كفارة اليمين


فصل: ويطعم لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق، أو رطلان من خبز، أو مدان تمرا أو شعيرا، والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وهو البر والشعير والتمر والزبيب قياسا
لها عليها، وفي الخبز روايتان: إحداهما: يجزئه؛ لقوله سبحانه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، ومن أخرج الخبز فقد أطعم.
والأخرى: لا يجزئه؛ لأنه خرج عن حال الكمال فأشبه الهريسة، فإن قلنا: يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعدا، وقال الخرقي: لكل مسكين رطلا خبز؛ لأن الغالب أنها لا تكون إلا من مد أو أكثر، ولا يجزئ من البر أقل من مد ولا من غيره أقل من مدين؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي يزيد المدني قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: " أطعم هذا، فإن مدي شعير مكان مد بر» وهذا نص.

مسألة 31: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] للآية.

ص : 519


(32) وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث أو تأخيرها عنه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " وروي: " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»

مسألة 32: (وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث وتأخيرها عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» وروي: «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) » متفق عليه.

(33) ويجزئه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب، وللمرأة درع وخمار

مسألة 33: (ويجزيه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع وخمار) ، وقال الشافعي: يجزيه أول ما يقع عليه الاسم من سراويل أو إزار أو رداء أو مقنعة أو عمامة، وفي القلنسوة وجهان؛ لأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأشبه ما يجزي في الصلاة، ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجزئ فيه ما يقع عليه الاسم كالإطعام والإعتاق؛ ولأن اللابس ما لا يستر عورته يسمى عريانا لا مكتسيا، وكذلك لابس السراويل أو مئزر وحده يسمى عريانا فوجب أن لا يجزيه، ولأنه مصروف إلى المساكين فيقدر كالإطعام، إذا ثبت هذا فإذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا؛ لأنه أقل ما يجزئها الصلاة فيه، وإن كسا الرجل أجزأه قميص أو ثوب يستر عورته به ويجعل على عاتقه منه شيئا، أو ثوبين يأتزر بأحدهما ويجعل الآخر على عاتقه، ولا يجزيه مئزر وحده ولا سراويل وحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لا يصلي أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» (رواه البخاري) .

ص : 520


(34) ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة

مسألة 34: (ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة) ، وعند الشافعي لا يجزئه؛ لقوله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، فوجه الحجة: أنه جعل الكفارة أحد هذه الخصال الثلاث، ولم يأت بواحدة منها. الثاني: أن اقتصاره على هذه الثلاث يدل على انحصار لتكفير فيها، وما ذكرتموه قسم رابع؛ ولأنه نوع من التكفير فلم يجز تبعيضه كالعتق، ولنا أنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعده العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالتيمم، لما جاز أن يقوم مقام الماء في جميع البدن في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث، وفيما إذا كان بعض بدنه جريحا وبعضه صحيحا؛ ولأن معنى الطعام والكسوة متقارب، إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة، وتنوعهما من حيث كونهما في الإطعام إشباع الجوعة، وفي الكسوة ستر العورة، ولا يمنع الإجزاء في الكفارة الملفقة منهما، كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر العورة والآخر إلى الاستدفاء، وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه؛ ولأنها دلت على أنه مخير في كل فقير من عشرة بين أن يطعمه أو يكسوه، وهذا يقتضي ما ذكرناه، ويصير كما يتخير في فداء الصيد الحرمي بين أن يفديه بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما فيتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوما، فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا جاز كذا هاهنا.

(35) ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة أو كساهم

مسألة 35: (ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه) ؛ لأن مقصودهما مختلف متباين، إذ كان القصد من العتق تكميل الأحكام أو تخليصه من الرق، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المسغبة في الإطعام، ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة، فلتقارب معناهما، جرتا مجرى الجنس الواحد فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر، ولذلك سوى بين عددهما، ولتباعد مقصد العتق منهما ومباينته لهما لم يجر معهما مجرى الجنس الواحد؛ ولذلك خالف عدده عددهما فلم يكمل به أحدهما، ولو يكمل هو بواحد منهما.

ص : 521


(36) أو أعتق نصف عبدين لم يجزه

مسألة 36: (وإن أعتق نصف عبدين لم يجزه) أيضا، وهو اختيار أبي بكر؛ لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك من إعتاق نصفين، والمذهب أنه يجزي، قال الشريف: هذا قول أكثرهم، ولأصحاب الشافعي قولان كذلك، ومنهم من قال: إن كان نصف الرقبتين حرا أجزأ؛ لأنه يحصل تكميل الأحكام، وإن كان رقيقا لم يجز؛ لأنه لم يحصل.

(37) ولا يُكفِّر العبد إلا بالصيام

مسألة 37: (ولا يكفر العبد إلا بالصيام) لا خلاف بين أهل العلم في أن العبد يجزيه الصيام في الكفارة؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة، فلو أذن له سيده في التكفير بالمال لم يلزمه؛ لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزيه التكفير بغير الصيام، وقال أصحابنا فيما إذا أذن له سيده في التكفير بالمال روايتان:
إحداهما: يجوز تكفيره به؛ لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال فجاز له ذلك كالحر، والرواية الأخرى: لا يجزيه؛ لأنه لا يملك المال فيكون تكفيره بغير ماله فلم يصح، كما لو أعتق الحر عبد غيره عن كفارته.
وعلى الروايتين لا يلزمه التكفير بالمال وإن أذن له سيده؛ لأن فرضه الصيام فلم يلزمه غيره، كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله.

(38) ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلاً عن مؤنته ومؤنة عياله وقضاء دينه

مسألة 38: (ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله وقضاء دينه) قال الشافعي: من كان له الأخذ من الزكاة لحاجته فله الصيام؛ لأنه فقير، ولنا ظاهر قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] ، ومن لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله فليس بواجد؛ ولأنه حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر، فإن ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه؛ لأنه حق آدمي، والكفارة حق الله سبحانه، فإذا كان مطالبا به وجب تقديمه كتقديمه على زكاة الفطر، وإن لم يكن مطالبا به، فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما: لا يجب لذلك، والأخرى: يجب؛ لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم تسقط بالدين كزكاة الفطر.


ص : 522


(39) ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه

مسألة 39: (ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه) ؛ لأن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية، وهذا من حوائجه الأصلية فلا يلزمه بيع شيء من ذلك؛ لأنه يضر به كثيرا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» .

(40) ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه

مسألة 40: (ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه) ؛ لأنه بدل لا يبطل بالقدرة عن المبدل فلم يلزمه الرجوع إليه، كما لو قدر على الهدي في صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بغير خلاف، والدليل على أن البدل لا يبطل هاهنا أن البدل الصوم، والصوم صحيح مع قدرته اتفاقا.

(41) ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام

مسألة 41: (ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام) ، وعنه لا يجزيه إلا كمال العدد؛ لقوله سبحانه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة، ودليل الأولى، وأنه يجزي أن ترديد الإطعام على الواحد في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة؛ لأنه قد دفع الحاجة في عشرة أيام، فأشبه ما لو أطعم كل يوم واحدا، والشيء بمعناه يقوم مقام وجوده بصورته عند تعذرها؛ ولهذا شرعت الأبدال لقيامها مقام المبدلات، في المعنى ولا يجتزئ بها مع المقدرة على المبدلات كذا هاهنا.

ص : 523


الموضوع التالي


باب الجنايات

الموضوع السابق


باب جامع الأيمان