باب الاشتراك في القتل
 
باب الاشتراك في القتل

الاشتراك في القتل وتقتل الجماعة بالواحد


(وتقتل الجماعة بالواحد) روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة وابن عباس، وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية روي ذلك عن ابن عباس، قال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فروى سعيد بن المسيب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف؛ ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف، ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأفضى إلى التسارع إلى القتل وإسقاط حكمة الردع والزجر، وإنما يجب القود إذا فعل كل واحد منهم فعلا لو انفرد به وجب عليه القود، فإذا اشتركوا وجب عليهم جميعهم.

(23) فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم

مسألة 23: (فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأة القتيل له أو العفو عنه قتل شركاؤه) أما إذا تعذر قتل أحدهم لأبوته كما إذا اشترك في القتل أب وأجنبي قتل الأجنبي، وعنه لا يقتل شريك الأب؛ لأنه مشارك من لا قصاص عليه فلم يجب عليه قصاص كشريك الخاطئ. ولنا أنه مشارك في القتل العمد العدوان لمن لم يقتل به لو انفرد فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي، وأما شريك الخاطئ ففيه روايتان: إحداهما:
يجب عليه كمسألتنا، وفي الأخرى: لا قصاص عليه؛ لأن القتل لم يتمحض عمدا لوجود الخطأ في الفعل الذي حصل به خروج النفس، بخلاف شريك الأب فإن قتلهما عمد محض وعدوان، وإنما سقط القصاص عن الأب لمعنى فيه مختص به فأشبه ما لو سقط عن أحد الأجنبيين للعفو عنه.

ص : 539


(24) مكافأته للقتيل أو العفو عنه

مسألة 24: وأما إذا تعذر قتل أحدهما لعدم مكافأة القتيل له كما إذا اشترك مسلم وذمي في قتل ذمي أو حر وعبد في قتل عبد عمدا فإن القصاص يجب على العبد والذمي؛ لأن سقوطه عن المسلم لمعنى فيه وهو الإسلام، وسقوطه عن الحر لعدم المكافأة، وهذا المعنى لا يتعدى إلى شريكه ولا إلى فعله فلم يقتض سقوط القصاص عن شريكه.

(25) قتل شركاؤه

مسألة 25: وأما إذا تعذر قتل أحد الشريكين للعفو عنه فإن القصاص يجب على شريكه؛ لأن سقوطه عنه للعفو عنه، وهو معنى لا يتعدى إلى شريكه فلم يسقط عنه القصاص.

(26) وإن كان بعضهم غير مكلف

مسألة 26: (وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود) ، أما إذا كان الشريك في القتل غير مكلف كالصبي والمجنون والآخر مكلفا لم يجب القود على المكلف في صحيح المذهب، وعنه يجب عليه؛ لأن القصاص يجب عليه جزاء لفعله لا عن فعل غيره فيجب أن يكون الاعتبار بفعله، فمتى تمحض عمدا أو عدوانا وجب القود إذا كان المقتول مكافئا له، وإنما يسقط عن الصبي والمجنون لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه، عن شريكهما كشريك الأب، ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ، أو شارك من رفع عنه القلم فأشبه شريك الخاطئ، ودليل ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، ودل على أن الأصل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» ؛ ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح، ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.

(27) أو خاطئا لم يجب القود على واحد منهم

مسألة 27: وإن كان شريك العامد مخطئا فلا قود على واحد منهما، أما المخطئ فلا قصاص عليه؛ لقوله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» وأجمعوا على أنه لا قود عليه، وأما شريكه فكذلك عند أكثرهم، وعنه: عليه القود؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان فأشبه شريك العامد؛ ولأنه مؤاخذ بفعله وهو عمد عدوان لا عذر له فيه، ولنا أنه قتل غير متمحض عمدا فلم يوجب القود كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ.

ص : 540


(28) وإن أكره رجل على القتل فقتل،

مسألة 28: (وإن أكره رجل رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة، أو قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق، فهما قاتلان وعليهما القصاص، وإن وجبت الدية استويا فيها) ، أما إذا أكره رجل رجلا على القتل فقتل فالقصاص على المكره والمكره جميعا، أما المكره؛ فلأنه تسبب إلى القتل العمد العدوان فوجب عليه القصاص، كشهود القصاص إذا رجعوا، وأما المكره فإنه قتل من يكافئه ظلما عدوانا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكره، والدليل على أنه قتل أنه أخذ السيف وحز الرقبة، ولأن القتل عبارة عن جرح يتبعه الزهوق وقد وجد منه ذلك، ولأنه أثم بذلك فإن عليه إثم القتل، والدليل على أنه عمد أنه قصد الفعل بآلة محصلة له، ولأن الإكراه لم يسلبه اختياره ولا ضعف قصده بل هيج دواعيه وكثرها، ولا يقال: إنه ينزل بمنزلة الآلة، فإن الآلة لا تأثم وهذا يأثم، والآلة ليس لها قصد وهذا له قصد صحيح، فإنه وقى نفسه واستبقاها بقتل أخيه المسلم، فينبغي أن يجب عليه القصاص ويصير كما لو قال له: اقتله وإلا قتلتك غدا فقتله فإنه يجب عليه القصاص.


(29) أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة،

مسألة 29: وأما إذا جرح أحدهما جرحا والآخر مائة فإنه يجب عليهما القصاص إذا مات المجروح، وإن صار الأمر إلى الدية فهما فيها سواء؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح دون الجراحات فسقط اعتبار عددها، ولأن الجراح إذا صارت نفسا أوجبت دية واحدة، كما لو قطع يده فمات، ولو كانت إحدى الجراحتين أعمق من الأخرى مثل أن تكون إحداهما موضحة والأخرى مأمومة فمات منهما فالقود عليهما؛ لأن ذلك لا يمنع من تساويهما، كما لا يمنع زيادة عدد الجراحات.

(30) أو قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص، وإن وجبت الدية استويا فيها

مسألة 30: وإن قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فمات وجب القود عليهما، وقال أبو حنيفة: لا قصاص على الأول، ويجب على الثاني؛ لأنه قطع سراية الأول فمات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه ثم مات، ولنا أن قطع الثاني لا يمنع جناية بعدها فلا يمنع جناية قبلها، كما لو قطع يده الأخرى، وما ذكره فغير مسلم، فإن الألم الحاصل بقطع الأول لم يزل، وإنما زاد، ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا.

ص : 541


(31) وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول، وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح

مسألة 31: (وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول، وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح) ، وذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الجناية الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل أن أخرج ما في بطنه فأبانه، أو قطع حلقومه ومريئه، ثم ضرب عنقه الثاني أو قطع يده أو قده نصفين، فالأول هو القاتل؛ لأنه لا يبقى مع جنايته حياة، والقود عليه خاصة، وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت، وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده، وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة أو قطع عضو كاليد والإصبع، ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل؛ لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة، فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس، ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه أو العفو على دية الطرف أو العفو مطلقا، وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة وغيرها فعليه الأرش، وإنما جعلنا له القصاص أو الأرش؛ لأن فعل الثاني قطع سراية الأول فصار كالمندمل، ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به عن حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل جرح يخرق المعاء فضرب عنقه الثاني، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة ثابت فيه، ألا ترى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج نصله فعلم الطبيب أنه ميت، فقال له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى وجعل أمر الخلافة إلى أهل الشورى فقبلت الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه، فلما كان حكم الحياة باقيا كان مفوتها هو القاتل كما لو قتل عليلا به علة قاتلة.

ص : 542


(32) وإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل القصاص على المباشر ويؤدب الآمر، وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر

مسألة 32: (فإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر، ويؤدب الآمر. وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر) ؛ لأنه إذا كان غير عالم تحريم القتل فهو معتقد لإباحته، وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا، ولأن حكمه القصاص الزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، وإذا لم يجب عليه وجب على الآمر؛ لأنه آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب به؛ كما لو أنهشه حية أو ألقاه في زبية أسد فقتله، ويؤدب المأمور، قال الإمام أحمد: يضرب ويؤدب، قال علي: ويستودع السجن، ويفارق هذا ما إذا علم حظر القتل فإن القصاص على المأمور لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدفع مع الحافز، ويكون على الآمر الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل.
وإن أمر بالقتل من لا يميز كصبي أو مجنون فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور ليس له قصد صحيح؛ لكونه غير مميز فهو كالآلة.

(33) وإن أمسك إنسانا للقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت

مسألة 33: (فإن أمسك إنسانا للقتل فقتل، قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت) أما القاتل فإنه يقتل بغير خلاف، وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، وإن أمسكه له ليقتله عالما بذلك مثل أن ضبطه له حتى ذبحه، فاختلفت الرواية عن الإمام أحمد: فروي عنه أنه يحبس حتى يموت، وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعنه: يقتل أيضا؛ لأنه لو لم يمسكه لم يقدر على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه، وقيل: يعاقب ويأثم ولا يقتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أعدى الناس على الله تعالى من قتل غير قاتله» ، والممسك غير قاتل، ولأن الإمساك سبب غير ملجئ، فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كالدافع والحافز، ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك» ؛ ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت، ليكون مثلا لما أتى به كما لو حبس رجلا عن الطعام والشراب حتى مات، فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.

ص : 543