باب حد المحاربين
 
باب حد المحاربين

وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا (51) ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع السارق به


(وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل) وإن عفا صاحب المال، (وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا) وخلي سبيله، روي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقيل يخير الإمام فيهم بين القتل والقطع والنفي، لقوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] و " أو " للتخيير، وقيل: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قطعه وقتله وبين أن يجمع له ذلك كله؛ لأنه وجد منه ما

ص : 609


يوجب القتل والقطع فأشبه ما لو زنى وسرق، وعنه إذا قتل وأخذ المال قطع ثم قتل ثم صلب، قال مالك: إذا قطع الطريق فإن رآه الإمام جلدا إذا رأى قتله، وإن كان جلدا لا رأى له قطعه، ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» (رواه أبو داود) ، وأما " أو " فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثل قولنا، فإما أن يكون توقيفا أو لغة، وأيهما كان فهو حجة يدل على أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف ككفارة اليمين، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ ككفارة القتل، يدل عليه أن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق، وقد سوي بينهم مع اختلاف جناياتهم، وبهذا نرد على مالك، فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي، وهو على خلاف الأصول التي ذكرناها، وقول أبي حنيفة لا يصح لأن القطع لو وجب بحق الله سبحانه لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال، ولأن الحدود لله سبحانه إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن، وذكر العاقولي في معلقه أن أبا داود روى عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل ثم صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف» وهو نص.

مسألة 51: (ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع به السارق) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار» ، ولم يفصل.

(52) ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي من الأرض

مسألة 52: (ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي من الأرض) ؛ لقوله سبحانه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال ابن عباس: النفي في هذه الحالة يعني في حق من لم يقتل ولم يأخذ مالا ولكنه أخاف السبيل، ونفيه تشريده عن الأمصار والبلدان، فلا يترك يأوي إلى بلد لظاهر الآية، فإن النفي الطرد والإبعاد، وأما الحبس فهو إمساك، وهما متنافيان.

ص : 610


(53) ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها

مسألة 53: (ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها) لا نعلم في هذا خلافا، ودليله قول الله سبحانه: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فيسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه، ولأنه إذا تاب قبل القدرة عليه فالظاهر أنها توبة إخلاص، وأما التوبة بعد القدرة عليه فالظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه فلا تفيده، وأما حقوق الآدميين التي ذكرناها من القصاص وغيرها، فيؤخذ بها ولا تسقط بالتوبة كما لو أخذ شيئا أو أتلف شيئا وهو غير محارب ثم تاب، فإنه يلزم به إلا أن يعفو صاحبه.

(54) ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحاً أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يكون أنه يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وإن قتل الدافع فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه


مسألة 54: (ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحا أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وإن قتل الدافع فهو شهيد) ، وذلك أن من عرض لإنسان يريد نفسه أو ماله أو حريمه فإنه يجوز له دفعه عن نفسه وماله وحريمه بأسهل ما يندفع به، كما يجوز ذلك في أهل البغي، فإن كان يندفع بالقول لم يجز ضربه؛ لأن المقصود دفعه وليس المقصود ضربه، وإن كان يندفع بالضرب لم يجز قتله لأن المقصود دفعه لا قتله، فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبادره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله به أو يقطع طرفه، فإن قتله أو أتلف منه عضوا كان هدرا لأنه قتله لدفع شره فلم يضمن كالباغي، ولأنه اضطره إلى قتله فصار كأنه القاتل لنفسه، وإن قتل الدافع فهو شهيد، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد» رواه الخلال بإسناده، ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل يقتله الباغي، سواء كان القاصد ذكرا أو أنثى، كبيرا أو صغيرا، وهكذا الحكم فيمن حمل عليه السلاح أو دخل منزله بغير إذنه بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يخرجه بأسهل ما يمكن على ما سبق فيمن عرض له من يريد نفسه أو ماله.

ص : 611


(55) ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان في ذلك

مسألة 55: (ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان عليه) وذلك أنه من صالت عليه بهيمة فلم يقدر على دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعا، وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره، وقال أبو حنيفة: عليه ضمانها؛ لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره، ولنا أنه قتلها بالدفع الجائز فلم يضمنها كالعبد، ولأنه حيوان جاز إتلافه لجنايته فلم يضمنه كالآدمي، ويفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولهذا لو قتل المحرم الصيد للمجاعة ضمنه ولو قتله لعياله لم يضمنه.

(56) ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بعصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه

مسألة 56: (ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بحصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه) وقال أبو حنيفة: يضمنه؛ لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه، فمجرد النظر أولى، ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» "، وعن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع في حجر من باب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحك رأسه بمدراة في يده، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو علمت أنك تنظر في لطمست - أو لطعنت - بها في عينك» متفق عليهما، وهذا أولى مما ذكروه.

(57) وإن عض إنسان يده فانتزعها منه فسقطت ثناياه فلا ضمان

مسألة 57: (فإن عض إنسان يده فانتزعها فسقطت ثناياه فلا ضمان فيها) لما روي عن عمران بن حصين «أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك» متفق عليه.

ص : 612

الموضوع التالي


باب قتال

الموضوع السابق


باب حد السرقة