باب الجزية
 
باب الجزية

الجزية ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة


(ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة) والأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأما السنة «فروى المغيرة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: " أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» أخرجه البخاري. وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة، واشتقاقها من جزى يجزي إذا قضى، تقول العرب: جزيت ديني إذا قضيته، وقال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي لا تقضي. والذين تقبل منهم الجزية صنفان: أهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب. فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة، وإنما خالفوا اليهود في فروع دينهم، وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى، فجميعهم من أهل الإنجيل وإن اختلفت فروعهم، والصابئون قال أحمد: هم جنس من النصارى، وقال: بلغني أنهم يسبتون فهم من اليهود، وروي عن عمر أنهم يسبتون. وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى، وأما من لهم شبهة كتاب كالمجوس، قال الشافعي: كان لهم كتاب فرفع، وقد أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر منهم الجزية، وروى البخاري بإسناده عن بجالة قال: «ولم يكن عمر أخذ الجزية من مجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من المجوس هجر» . إذا ثبت هذا فإن أهل العلم من الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم أجمعوا على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس مع ما فيه من الآثار الصحيحة، وعمل بها الخلفاء الراشدون، ثم جرت به السنة إلى يومنا هذا.

ص : 653



مسألة 60: (وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عاهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة، فإن نقضوا العهد بمخالفة شيء من ذلك صاروا حرباً لزوال عهدهم، ولم تؤخذ منهم جزية بعد ذلك. ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين:
أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول.
والثاني: أن يلتزموا أحكام الإسلام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وإنما يحصل الصغار بذلك.

(61) ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم

مسألة 61: (ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] إلى قوله - {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم. وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] يعني حتى يلتزموا إعطاءها فلا يعتبر حقيقة الإعطاء كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] معناه التزموا ذلك بالإجماع، كذا هاهنا.

(62) وتؤخذ الجزية في رأس كل حول

مسألة 62: (وتؤخذ الجزية في رأس كل حول) ؛ لأنه مال يتكرر بتكرر الحول فلا تجب إلا بأوله كالزكاة والدية.

ص : 654


(63) من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً

مسألة 63: وتؤخذ (من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً) ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذها منهم كذلك، وقد روي عن أحمد أن الجزية مقدرة بمقدار لا يزيد ولا ينقص، وعنه أنها غير مقدرة منهم كذلك، بل ذلك مردود إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك، ودليله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم ديناراً ولم يفصل» ، رواه أبو داود،. «وصالح أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والنصف في رجب» رواه أبو داود، وعمر جعل أهل الجزية ثلاث طبقات: الغني ثمانية وأربعون درهماً، والمتوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً. ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة، وعنه أن أقلها مقدر بدينار، وأعلاها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل اليمن ولم ينقص منه، ووجه الرواية الأولى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها مقدرة وعمر فرضها مقدرة وكان ذلك بمشهد من الصحابة فكان إجماعاً.

(64) ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد

مسألة 64: (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير عاجز عنها) . لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن الجزية إنما تجب على الرجل العاقل ولا تجب على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وقد دل عليه «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "خذ من كل حالم ديناراً» وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن أضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي، رواه سعيد. ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء محقونون بدونها وكذلك الشيخ والزمن والأعمى لا جزية عليهم لذلك، ولا تجب على عبد؛ لأن ما يجب على العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إلى إيجاب الجزية على المسلم، وهذا مجمع عليه، وكذلك إن كان السيد ذمياً، قال ابن المنذر: " اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا جزية على العبد " ووجهه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جزية على العبد» . وعن ابن عمر مثله، ولأن

ص : 655


مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات، ولأنه محقون الدم فلا تجب عليه الجزية كالصبيان، وعنه تجب عليه الجزية يؤديها سيده لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: "لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم على بعض، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه "، وروي نحوه عن علي، قال أحمد: أراد عمر أن يوفر الجزية؛ لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه إذاً ما يؤخذ منه، والذمي يؤدى عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر.

(65) ولا فقير عاجز عنها

مسألة 65: (ولا تجب على فقير عاجز عنها) لقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا عاجز عنها، ولأن عمر جعل الجزية على طبقات أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه، ولأنه مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.

(66) ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه

مسألة 66: (ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه) لقوله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال، قال أحمد: وقد روي عن عمر أنه قال: "إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الجزية» وروي أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية، وقيل إنما أسلمت تعوذاً قال: إن في الإسلام معاذاً، فقال عمر: إن في الإسلام معاذاً، وكتب: لا تؤخذ منه الجزية، رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى، ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحلول، ولأنها عقوبة بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل، وبهذا فارق سائر الديون.

(67) وإن مات أخذت من تركته

مسألة 67: (وإن مات أخذت من تركته) يعني يموت على كفره فلا تسقط عنه في ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه قال: تسقط بالموت
لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود، ولنا أنها دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بعد الموت كديون الآدميين، والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية.

ص : 656


(68) ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر

مسألة 68: (ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر) اشتهر هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصحت الرواية عنه به وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور» رواه أبو داود. وروى الإمام أحمد عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. وهذا كان بالعراق، وروى أبو عبيد في الأموال أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهماً درهماً، وقال الشافعي: لا يؤخذ من أهل الذمة إلا الجزية، وما ذكرناه حجة عليهم. والله أعلم.

(69) وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر

مسألة 69: (وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر) قال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء، إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فيؤخذ منهم مثله. ولنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر واشتهر ذلك بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعاً. ولا يعشر في السنة إلا مرة؛ لأنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة، وأهل الذمة كذلك.

(70) ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله

مسألة 70: (ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله) لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا وخالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق" فزاد عليهم عمر: "ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده " فظاهره أنه متى نقض شيئاً من ذلك انتقض عهده وحل دمه وماله، وهو ظاهر كلام الخرقي، ولأنه عقد بشرط فمتى لم
يوجد الشرط زال حكم العقد، كما لو امتنع من التزام الأحكام فإنه إذا امتنع منها وقد حكم بها حاكم، أو من ترك الجزية، انتقض عهده من غير خلاف في المذهب، وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب؛ لأن إطلاق الأمان لا يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلوا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان، وبقية الشروط في بعضها روايتان، وفي بعضها لا ينتقض عهدهم بمخالفتها بحال؛ لأنه لا ضرر فيها على مسلم ولا ينافي عقد الذمة سواء شرط عليهم أو لم يشرط، وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به فصلب في بيت المقدس، ولأن فيه ضرراً على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه يتعذر به أخذ الجزية منهم، وما ذكرناه من حديث عمر حجة عليه.


مسألة 71: ومن هرب منهم إلى دار الحرب حل دمه وماله، قال الخرقي: ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً؛ لأنه إذا فعل ذلك صار حكمه حكم أهل الحرب وحل دمه وماله كأهل الحرب، ومتى قدر عليه أبيح قتله وأسره وأخذ ماله كأهل الحرب سواء.


ص : 657


(72) ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب

مسألة 72: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب) وإنما ينتقض عهدهم؛ لأن النقض إنما وجد منه ولم يوجد منهم فيبقون على العهد ولا يحل سبيهم ولا التعرض لهم في المعنى، فإن كانت ذريته معه لم تستبرأ؛ لأن النقض إنما وجد منه دونهم.

ص : 658


الموضوع التالي


باب القضاء

الموضوع السابق


باب الأمان