قوله : (ولا شيء يعجزه)
 
ش : لكمال قدرته . قال تعالى : إن الله على كل شيء قدير . وكان الله على كل شيء مقتدراً . وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً . وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم . لا يؤده أي : لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه . فهذا النفي لثبوت كمال ضده ، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده ، كقوله تعالى : ولا يظلم ربك أحداً ، لكمال عدله . لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، لكمال علمه . وقوله تعالى : وما مسنا من لغوب ، لكمال قدرته . لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته . لا تدركه الأبصار ، لكمال جلاله وعظمته وكبريائه ، وإلا فالنفى الصرف لا مدح فيه ، ألا ترى أن قول الشاعر :
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده ، وتصغيرهم بقوله قبيلة علم أن المراد عجزهم وضعفهم ، لا كمال قدرتهم . وقول الآخر :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم ، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً .
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً ، والنفي مجملاً ، عكس طريقة أهل الكلام المذموم : فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل ، يقولون : ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم ، ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض ، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة .
وفي هذه الجملة حق وباطل . ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة . وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه ، [فيه] إساءة أدب ، فإنك لو قلت للسلطان : أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك ! لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً ، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت : أنت لست مثل أحد من رعيتك ، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل . فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب .
والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الآلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة . والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات ، ولا يتدبرون معانيها ، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده . [وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده] . والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً ، أو يبينوا حاله تفصيلاً ، ويحكم عليه بالكتاب والسنة ، [لا يحكم به على الكتاب والسنة] .
والمقصود : أن غالب عقائدهم السلوب ، ليس بكذا ، ليس بكذا ، وأما الإثبات فهو قليل ، وهي أنه عالم قادر حي ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات ، فإن الله تعالى قال : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي . ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله ، مما أخبرنا به من صفاته ، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه ، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب : اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن [العظيم] ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي . وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى .
وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى ولا شيء يعجزه من النفي المذموم ، فأن الله تعالى قال : وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً ، فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز ، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل ، وإما من عدم علمه به ، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه ، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد ، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ، تعالى الله عن ذكر ذلك علواً كبيراً .

الموضوع التالي


قوله : (ولا إله غيره)

الموضوع السابق


قوله : (ولاشيء مثله) .