قوله : (ولا يشبهه الأنام)
 
ش : هذا رد لقول المشبهة ، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق ، سبحانه وتعالى ، قال عز وجل : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر : لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه . ثم قال بعد ذلك : وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا . انتهى . وقال نعيم بن حماد : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه . وقال اسحاق بن راهويه : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم . وقال : علامة جهم وأصحابه ، دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب - : أنهم مشبهة ، بل هم المعطلة . وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف : علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً ، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة ، القرامطة والفلاسفة ، وقال : أن الله لا يقال له : عالم ولا قادر- : يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه ، لأن الاشتراك في الإسم يوجب الاشتباه في معناه ، ومن أثبت الاسم وقال : هو مجاز، كغالية الجهمية، يزعم أن من قال : أن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة - : فهو مشبه ، ومن أنكر الصفات وقال : أن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة - قال لمن أثبت الصفات : أنه مشبه ، وأنه : مجسم . ولهذا كتب نفاة الصفات ، من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم ، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة ، ويقولون في كتبهم : إن من جملة المجسمة قوما يقال لهم : المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له : مالك بن أنس ، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون الى رجل يقال له : محمد بن ادريس ! ! حتى الذين يفسرون القرآن منهم ، كعبد الجبار ، و الزمخشري ، وغيرهما ، يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات وقال بالرؤية - مشبهاً ، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف .
ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين : أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات ، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات . بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله ، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا . وهذا معنى قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فنفى المثل وأثبت الصفة .
وسيأتي في كلام الشيخ اثبات الصفات ، تنبيها على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات .
ومما يوضح هذا : أن العلم الالهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع ، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده ، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء ، فلا يجوز أن يمثل بغيره ، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها . ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الالهية - لم يصلوا بها إلى اليقين ، بل تناقضت أدلتهم ، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والإضطراب ، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها .
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى ، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً ، كما قال تعالى : ولله المثل الأعلى . مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه - : فالواجب القديم أولى به . وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر- : فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره ، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه ، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال ، اذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات - : فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الاولى .
ومن أعجب العجب : أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون : واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا - ثم يقولون : أصل الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة ، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني ، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تخلقوا بأخلاق الله ، فإذا كانوا ينفون الصفات ، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم ؟! وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى ، لا يشبهه شيء من مخلوقاته ، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى . ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له ، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته . فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله ولا يشبهه الأنام . والأنام : الناس ، وقيل ، كل ذي روح ، وقيل : الثقلان . وظاهر قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام - يشهد للأول أكثر من الباقي . والله أعلم .