قوله : (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري)
 
ش : ظاهر كلام الشيخ رحمه الله أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي ، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل ، وهو قوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان ، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم . ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل ، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه ، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى .
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها ، من القائلين بحوادث لا آخر لها - فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما ، فإنه سبحانه لم يزل حياً ، والفعل من لوازم الحياة ، فلم يزل فاعلاً لما يريد ، كما وصف بذلك نفسه ، حيث يقول : ذو العرش المجيد * فعال لما يريد .
والآية تدل على أمور :
أحدها : أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته .
الثاني : أنه لم يزل كذلك ، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ، [و] أن ذلك من كماله سبحانه ، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات . وقد قال تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون . ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن .
الثالث : أنه إذا أراد شيئاً فعله ، فان ما موصوله عامة ، أي : يفعل كل ما يريد أن يفعله ، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله . وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر: فان أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً . وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية ، وخبطوا في مسألة القدر ، لغفلتهم عنها ، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلاً ، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى .
الرابع : أن فعله وإرادته متلازمان ، فما أراد أن يفعل فعل ، وما فعله فقد أراده . بخلاف المخلوق ، فإنه يريد ما لا يفعل ، [وقد يفعل] ما لا يريده . فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده .
الخامس : إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال ، وأن كل فعل له إرادة تخصه ، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد .
السادس : أن كل ما صح أن تتعلق به أرادته جاز فعله ، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء ، وأن يري عباده نفسه ، وأن يتجلى لهم كيف شاء ، ويخاطبهم ، ويضحك إليهم ، وغير ذلك مما يريد سبحانه - لم يمتنع عليه فعله ، فإنه تعالى فعال لما يريد . وإنما يتوقف صحة ذلك على اخبار الصادق به ، فإذا أخبر وجب التصديق ، وكذلك محو ما يشاء ، واثبات ما يشاء ، كل يوم هو في شأن ، سبحانه وتعالى .
والقول بأن الحوادث لها أول ، يلزم منه التعطيل قبل ذلك ، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلاً . ولا يلزم من ذلك قدم العالم ، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود ، موجود بإيجاد الله تعالى له ، ليس له من نفسه إلا العدم ، والفقر والإحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى ، والله تعالى واجب الوجود لذاته ، غني لذاته ، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى .
والناس قولان في هذا العالم : هل هو مخلوق من مادة أم لا ؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء .
وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئناك لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن [أول] هذا الأمر، فقال : كان الله ولم يكن شيء قبله ، وفي رواية : ولم يكن شيء معه ، وفي رواية غيره : وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السماوات والأرض ، وفي لفظ : ثم خلق السماوات والأرض . فقوله كتب في الذكر [، يعني اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر يسمى ما يكتب في الذكر ذكراً ،] كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً .
والناس في هذا الحديث على قولين : منهم من قال : أن المقصود أخباره بأن الله كان موجوداً وحده ولم يزل كذلك دائماً ، ثم ابتدأ أحداث جميع الحوادث ، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم ، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان ، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل كان الفعل ممكناً . والقول الثاني : المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش ، كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السماوات بخمسين ألف سنة ، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء .
دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه : أحدها : أن قول أهل اليمن جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر ، وهو اشارة الى حاضر مشهود موجود ، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي الذي كونه الله بأمره . وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء . هذا العالم الموجود ، لا عن جنس المخلوقات ، لأنهم لم يسألوه عنه ، وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض حال كون عرشه على الماء ، ولم يخبرهم عن خلق العرش ، وهو مخلوق قبل خلق السماوات والأرض . وأيضاً فإنه قال : كان الله ولم يكن شيء قبله ، وقد روي معه ، وروي غيره ، والمجلس كان واحداً ، فعلم أنه قال أحد الألفاظ والآخران رؤيا بالمعنى ، ولفظ القبل ثبت عنه في غير هذا الحديث . ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في دعائه : اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، الحديث . واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ القبل ، كالحميدي و البغوي و ابن الاثير . وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ، ولا لأول مخلوق . وأيضاً : فإنه يقال : كان الله ولم يكن شيء قبله أو معه أو غيره ، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء . فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو ، و خلق السماوات والأرض روي بالواو وبثم ، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام ، لا إبتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك ، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما ، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده ، ولم يتعرض لابتداء خلقه له . وأيضاً : فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا ، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل ، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطىء قطعاً ، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث ، ولم يرد كان الله ولا شيء معه مجرداً ، وإنما ورد على السياق المذكور ، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائماً عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض . وأيضاً : فقوله صلى الله عليه وسلم : كان الله ولاشيء قبله ، أو معه ، أو غيره ، وكان عرشه على الماء ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلاً ، لأن قوله وكان عرشه على الماء . يرد ذلك ، فإن هذه الجملة وهي وكان عرشه على الماء إما حالية ، أو معطوفة ، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت ، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود .