قوله : ( ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شىء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير )
 
ش : ذلك إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه . والكلام على كل وشمولها وشمول كل [في كل] مقام بحسب ما يحتف به من القرائن ، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى .
وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى : والله على كل شيء قدير ، فقالوا : أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم ، وتنازعوا : هل يقدر على مثلها أم لا ؟ ! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال : هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها . فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.
وأما أهل السنة ، فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا . وأما المحال لذاته ، مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة ، فهذا لا حقيقة له ، ولا يتصور وجوده ، ولا يسمى شيئاً ، باتفاق العقلاء . ومن هذا الباب : خلق مثل نفسه ، وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال .
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة ، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء ، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير . وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن : هل هو شيء أم لا ؟ والتحقيق : أن المعدوم ليس بشيء في الخارج ، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ويكتبه ، وقد يذكره ويخبر به ، كقوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب ، لا في الخارج ، كما قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، قال تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ، أي : لم تكن شيئاً في الخارج وإن كان شيئاً في علمه تعالى . وقال تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً .
وقوله : ليس كمثله شيء ، رد على المشبهة . وقوله تعالى : وهو السميع البصير ، رد على المعطلة ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال ، وليس له فيها شبيه . فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير- فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره ، ولا يلزم من اثبات الصفة تشبيه ، إذ صفات المخلوق كما يليق به ، وصفات الخالق كما يليق به .
ولا تنف . عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم وأقدرهم على البيان . فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل [على] محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه ، فليس كمثله شيء ، فإذا شبهته بخلقه كنت كافراً به . قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله [بخلقه] فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً . وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه .
وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الاعلى ، فقال تعالى : للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ، وقال تعالى : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . فجعل سبحانه مثل السوء - المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال - لأعدائه المشركين وأوثانهم ، وأخبر أن المثل الأعلى - المتضمن لاثبات الكمال كله - لله وحده . فمن سلب صفة الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السوء ، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى ، [و] ، هو الكمال المطلق ، المتضمن للأمور الوجودية ، والمعاني الثبوتية ، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل - كان بها أكمل وأعلى من غيره .
ولما كانت صفات الرب [سبحانه] وتعالى أكثر وأكمل ، كان له المثل الأعلى ، وكان أحق به من كل ما سواه . بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق أثنان ، لأنهما أن تكافآ من كل وجه ، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ ، فالموصوف به أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير .
واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى . ووفق بين أقوالهم من وفقه الله وهداه ، فقال : المثل الأعلى يتضمن : الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه .
فها هنا أمور اربعة :
الأول : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى ، سواء علمها العباد أو لا ، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة .
الثاني : وجودها في العلم والشعور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : أنه ما في قلوب عابديه وذاكريه ، من معرفته وذكره ، ومحبته وجلاله ، وتعظيمه ، وخوفه ورجائه ، والتوكل عليه والإنابة إليه . وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً ، بل يختص به في قلوبهم ، كما اختص به في ذاته . وهذا معنى قول من قال من المفسرين : أن معناه : أهل السماوات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه ، وأهل الأرض كذلك ، وإن أشرك [به من أشرك] ، وعصاه من عصاه ، وجحد صفاته من جحدها ، فأهل الأرض معظمون له ، مجلون ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته وجبروته . قال تعالى : وله من في السماوات والأرض كل له قانتون .
الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل .
الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيده ، والإخلاص له ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه . وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص [أقوى] .
فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة . فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى : وله المثل الأعلى وبين قوله : ليس كمثله شيء ؟ ويستدل بقوله : ليس كمثله شيء على نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله : وهو السميع البصير ! حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم ، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، إلى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة : ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ، حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير كما قال الضال الآخر ، جهم بن صفوان : وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى : ثم استوى على العرش فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، بمنه وكرمه .
وفي إعراب كمثله - وجوه ، أحدها : [أن] الكاف صلة زيدت للتأكيد ، قال أوس بن حجر :
ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر : ما أن كمثلهم في الناس من بشر
وقال آخر : وقتلى كمثل جذوع النخيل
فيكون مثله خبر ليس واسمها شيء . وهذا وجه قوي حسن ، تعرف العرب معناه في لغتها ، ولا يخفى عنها اذا خوطبت به ، وقد جاء عن العرب أيضا زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم :
وصاليات ككما يؤثفين
وقول الآخر : فأصبحت مثل كعصف مأكول
الوجه الثاني : أن الزائد مثل أي : ليس كهو شيء ، وهذا القول بعيد ، لأن مثل اسم والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم .
الثالث : أنه ليس ثم زيادة أصلاً ، بل هذا من باب قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، أي : أنت لا تفعله ، وأتى بمثل للمبالغة ، وقالوا في معنى المبالغة هنا : أي : ليس كمثله مثل لو فرض المثل ، فكيف ولا مثل له . وقيل غير ذلك ، والأول أظهر .