قوله : ( وضرب لهم آجالاً )
 
ش : يعني : أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق ، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قال تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . وقال تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله ، و بأبي سفيان ، و بأخي معاوية ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، قد سألت الله لآجال مضروبة ، وأيام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، لن يعجل شيئاً قبل أجله ، ولن يؤخر شيئاً عن أجله ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر- : كان خيراً وأفضل فالمقتول ميت بأجله ، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم ، وهذا بسبب الحرق ، وهذا بالغرق ، إلى غير ذلك من الأسباب . والله سبحانه خلق الموت والحياة ، وخلق سبب الموت والحياة . وعند المعتزلة : المقتول مقطوع عليه أجله ، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل ، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه البتة ، أو يجعل أجله أحد الأمرين ، كفعل الجاهل بالعواقب ، ووجوب القصاص والضمان على القاتل ، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور . وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم : صلة الرحم تزيد في العمر أي : سبب طول العمر. وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية ، ولكن قدر هذا السبب وقضاه ، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا ، كما قلنا في القتل وعدمه .
فإن قيل : هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا ؟
فالجواب : أن ذلك غير لازم ، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها : قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة الحديث ، كما تقدم . فعلم أن الأعمار مقدرة ، لم يشرع الدعاء بتغيرها ، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة . فإن الدعاء مشروع له نافع فيه ، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الآخروي - شرع كما في الدعاء رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي ، إلى آخر الدعاء . ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن النذر ، وقال : انه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل .
واعلم أن الدعاء يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض ، وكذلك هو . وكذلك لا يجيب الله المعتدين في الدعاء. وكان الامام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول : هذا أمر قد فرغ منه .
وأما قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى : من عمره أنه بمنزلة قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي : ونصف درهم آخر، فيكون المعنى : ولا ينقص من عمر معمر آخر ، وقيل : الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة ، وحمل قوله تعالى : لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، [على أن المحو والاثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة ، وأن قوله : وعنده أم الكتاب ] . اللوح المحفوظ . ويدل على هذا الوجه سياق الآية ، وهو قوله : لكل أجل كتاب ، ثم قال : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، أي : من ذلك الكتاب ، وعنده أم الكتاب ، أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ . وقيل : يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول ، وهو قوله تعالى : وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب . فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه ، بل من عند الله ، ثم قال : لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشاء ويثبت ، أي : أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل ، ويثبت ما يشاء . وفي الآية أقوال آخرى ، والله أعلم بالصواب .