قوله : ( وإن محمداً عبده المصطفى ، ونبيه المجتبى ، ورسوله المرتضى )
 
ش : الإصطفاء والإجتباء والإرتضاء : متقارب المعنى . واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى . وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه ، وأن الخروج عنها أكمل ، فهو [من] أجهل الخلق وأضلهم ، قال تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون . إلى غير ذلك من الآيات . وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بإسم العبد في أشرف المقامات ، فقال في ذكر الإسراء : سبحان الذي أسرى بعبده . وقال تعالى : وأنه لما قام عبد الله يدعوه . وقال تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى . وقال تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا . وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة . ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة ، إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام - : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى .
وقوله : وإن محمداً بكسر الهمزة ، عطفاً على قوله : إن الله واحد لا شريك له . لأن الكل معمول القول ، أعني : قوله نقول في توحيد الله .
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات ، وقرروا ذلك بطرق مضطربة ، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء ، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر، ونحو ذلك .
ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح ، لكن الدليل غير محصور في المعجزات ، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين . بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما ، وتعرف بهما والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة ، فكيف بدعوة النبوة ؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه :
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه - ما ظهر لمن له أدنى تمييز . فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ، ولا بد أن يفعل أموراً [يبين بها صدقه] . والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة . والصادق ضده . بل كل شخصين ادعيا أمراً : أحدهما صادق والآخر كاذب - لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة ، إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي الى البر، [وإن] البر يهدي الى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق [ويتحرى الصدق] ، حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذاباً . ولهذا قال تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون . فالكهان ونحوهم ، وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من المغيبات ، ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك ، وليسوا بأنبياء ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : قد خبأت لك خبأ ، فقال : [هو] الدخ - قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اخسأ ، فلن تعدو قدرك يعني : إنما أنت كاهن . وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يأتيني صادق وكاذب . وقال : أرى عرشاً على الماء ، وذلك هو عرش الشيطان وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون ، والغاوي : الذي يتبع هواه وشهوته ، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة .
فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله - علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن .
والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة ، حتى في المدعي للصناعات والمقالات ، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة ، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك . والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها ، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال . فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ؟ ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة - : قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم ضروري ، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه [وبغضه] وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه ، بأمور تظهرعلى وجهه ، قد لا يمكن التعبيرعنها ، كما قال تعالى : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ثم قال : ولتعرفنهم في لحن القول . وقد قيل : ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفات وجهه وفلتات لسانه . فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن ، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله ، كيف يخفى صدق هذا من كذبه ؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة ؟
ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي : إني قد خشيت على نفسي ، فقالت : كلا - والله لا يخزيك الله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق . فهو لم يخف من تعمد الكذب ، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب ، وإنما خاف أن يكون [قد] عرض له عارض سوء ، وهو المقام الثاني ، فذكرت خديجة ما ينفي هذا ، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة - : فإنه لا يخزيه .
وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرؤوا عليه : إن هذا والذي جاء به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة . وكذلك ورقة ابن نوفل ، لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه ، وكان ورقة [قد] تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية ، فقالت له خديجة : أي : عم ، اسمح من ابن أخيك ما يقول ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال : هذا [هو] الناموس الذي كان يأتي موسى .
وكذلك هرقل ملك الروم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام ، طلب من كان هناك من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام ، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأل أبا سفيان ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار، سألهم : هل كان في آبائه من ملك ؟ فقالوا : لا، قال : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فقالوا : لا، وسألهم : أهو ذو نسب فيكم ؟ فقالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقالوا : لا ، ما جربنا عليه كذباً ، وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم ؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه ؟ وسألهم : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم : هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقالوا : ل ا، وسألهم : هل قاتلتموه ؟ قالوا : نعم ، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه ؟ فقالوا : يدال علينا مرة وندال عليه أخرى ، وسألهم : هل يغدر ؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم : بماذا يأمركم ؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة . وهذه أكثر من عشر مسائل ، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال : سألتكم هل كان في آبائه من ملك ؟ فقلتم : لا، قلت : لو كان في آبائه [من] ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتكم هل قال هذا القول [فيكم] أحد قبله ؟ فقلتم : لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد [قبله] لقلت : رجل أئتم بقول قيل قبله ، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقلتم : لا ، فقلت : قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله تعالى ، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم ؟ فقلتم : ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، يعني في أول أمرهم ، ثم قال : وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون ؟ فقلتم ، بل يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الإيمان ، إذا خالطت بشاشة القلوب لا يسخطه أحد .
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق ، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر ، فيرجع عنه أصحابه ، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه ، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف .
وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فقلتم : إنها دول ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها ، قال : وسألتكم هل يغدر ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الرسل لا تغدر، وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون - علم أن هذه علامات الرسل ، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء ، لينالوا درجة الشكر والصبر .
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خير له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له .
والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، الآيات . وقال تعالى : الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، الآيات . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول .
قال : وسألتكم عما يأمر به ؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وينهكم عما كان يعبد آباؤكم ، وهذه صفة نبي ، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث ، ولم أكن أظنه منكم ، ولوددت أني أخلص إليه ، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين . وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب ، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سفيان بن حرب : فقلت لأصحابي ونحن خروج ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليعظمه ملك بني الأصفر ، وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره .
ومما ينبغي أن يعرف : أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور، قد لا يستقل بعضها به ، بل ما يحصل للإنسان - من شبع وري وشكر وفرح وغم - فأمور مجتمعة ، لا يحصل ببعضها ، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر .
وكذلك العلم بخبر من الأخبار ، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن ، ثم الآخر يقويه ، إلى أن ينتهي إلى العلم ، حتى يتزايد ويقوى . وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك .
وأيضاً : فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة ، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة ، كثبوت الطوفان ، وإغراق فرعون وجنوده ، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي ، في سورة الشعراء ، كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده ، يقول في آخر كل قصة : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
وبالجملة : فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول إنه رسول الله ، وأن أقواماً اتبعوهم ، وأن أقواماً خالفوهم ، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين ، وجعل العاقبة لهم ، وعاقب أعداءهم - : هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها . ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب ، كبقراط وجالينوس و بطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه .
ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم - علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة : منها : أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم . ومنها : ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم ، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه ، - كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم -عرف صدق الرسل . ومنها : أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها ، تبين له أنهم أعلم الخلق ، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل ، وأن فيما جاؤوا به من المصلحة والرحمة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم -ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق .
ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات ، كالبيهقي وغيره .
بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى ، ونسبة له إلى الظلم والسفه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، بل جحد للرب بالكلية وإنكار .
وبيان ذلك : أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق ، بل ملك ظالم ، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه ، ويستمر حتى يحلل ويحرم ، ويفرض الفرائض ، ويشرع الشرائع وينسخ الملل ، ويضرب الرقاب ، ويقتل أتباع الرسل [وهم] أهل الحق ، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم ، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض ، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له ، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق ، وهو مستمر في الافتراء عيه ثلاثاً وعشرين سنة ، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ، ويعلي أمره ، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته ، ويهلك أعداءه ، ويرفع له ذكره ، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والإفتراء والظلم ، فإنه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدلها وقتل أولياءه ، واستمرت نصرته عليهم دائماً ، والله تعالى يقره على ذلك ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين فيلزمهم أن يقولوا : لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم ، لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة ، وجعله نكالاً للصالحين . إذ لا يليق [بالملوك] غير ذلك ، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين ؟ ولا ريب أن الله [تعالى] قد رفع له ذكره ، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رؤوس الاشهاد في سائر البلاد ، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود ، وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتم أمره ، ولم تطل مدته ، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم ، وقطعوا دابره واستأصلوه . هذه سنة الله التي قد خلت من قبل ، حتى إن الكفار يعلمون ذلك . قال تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين . أفلا تراه يحبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل ، لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه . وقال تعالى : أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك . وهنا انتهى جواب الشرط ، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق : أنه يمحو الباطل ويحق الحق . وقال تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء . فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره .
وقد ذكروا فروقا بين النبي والرسول ، وأحسنها . أن من نبأه الله بخبر السماء ، إن أمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي رسول ، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي وليس برسول . فالرسول أخص من النبي ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها ، فالنبوة جزء من الرسالة ، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها ، بخلاف الرسل ، فإنهم لا يتناولون الانبياء وغيرهم ، بل الامر بالعكس . فالرسالة أعم من جهة نفسها ، وأخص من جهة أهلها . وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه ، وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال [تعالى] : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وقال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .