قوله : ( وسيد المرسلين )
 
ش : قال صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع ، وأول مشفع . رواه مسلم . وفي أول حديث الشفاعة : أنا سيد الناس يوم القيامة [و] روى مسلم و الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم .
فإن قيل : يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : لاتفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشاً بساق العرش ، فلا أدري هل أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله ؟ خرجاه في الصحيحين ، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر .
فالجواب : أن هذا كان له سبب ، فإنه كان قد قال يهودي : لا والذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه مسلم ، وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً ، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً ، فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض . وقال تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات . فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر ، أو على وجه الإنتقاص بالمفضول . وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوا بين الأنبياء ، إن كان ثابتاً ، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى ، وهو في البخاري وغيره . لكن بعض الناس يقول : إن فيه علة ، بخلاف حديث موسى ، فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم .
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ، وهو : أن قوله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني على موسى ، وقوله : لا تفضلوا بين الأنبياء نهي عن التفضيل الخاص ، أي : لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه ، بخلاف قوله : أنا سيد ولد آدم ولا فخر فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه . وهذا كما لو قيل : فلان أفضل أهل البلد ، لا ينصب على أفرادهم ، بخلاف ما لو قيل لأحدهم : فلان أفضل منك . ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار .
وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تفضلوني على يونس [بن متي] ، وأن بعض الشيوخ قال : لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً ، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج وعدواً هذا تفسيراً عظيماً . وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى ، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها ، وإنما اللفظ الذي في الصحيح : لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متي . وفي رواية : من قال أني خير من يونس بن متى فقد كذب . وهذا اللفظ يدل على العموم ، لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى ، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس ، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم ، أي : فاعل ما يلام عليه . وقال تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس ، فلا يحتاج إلى هذا المقام ، إذ لا يفعل ما يلام عليه . ومن ظن هذا فقد كذب ، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم ، فأولهم : آدم ، قد قال : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . وآخرهم وأفضلهم وسيدهم : محمد صلى الله عليه وسلم ، قال في الحديث الصحيح ، حديت الاستفتاح ، من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، بعد قوله وجهت وجهي آخره : اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعاً ، لا يغفر الذنوب إلا أنت ، إلى آخر الحديث ، وكذا قال موسى عليه السلام : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم . وأيضاً : فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ، فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به ، وأمره بالتشبه بأولي العزم حيث قيل له : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، فقد يقول من يقول : أنا خير من يونس - : للأفضل أن يفخر على من دونه ، فكيف إذا لم يكن أفضل ، فان الله لا يحب كل مختال فخور، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أوحي إلي أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد . [فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين]، فكيف على نبي كريم ؟ فلهذا قال : لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متي . فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس . وقوله : من قال إني خير من يونس بن متي فقد كذب ، فانه لو قدر أنه كان أفضل ، فهذا الكلام يصير نقصاً ، فيكون كاذباً ، وهذا لا يقوله نبي كريم ، بل هو تقدير مطلق ، أي : من قال هذا فهو كاذب ، وإن كان لا يقوله نبي ، كما قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك ، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال .
وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم ، لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره ، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله ، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله ، صلى الله عليهم وسلم أجمعين . ولهذا أتبعه بقوله ولا فخر ، كما جاء في رواية . وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر : إن مقام الذي أسري به الى ربه وهو مقرب معظم مكرم - كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم ؟ ! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب ؟! فهذا في غاية التقريب ، وهذا في غاية التأديب . فانظر إلى هذا الإستدلال ، لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول ، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه ، التي تزيد على ألف دليل ، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله محيط بكل شيء وفوقه ، إن شاء الله تعالى .