قوله : و(وإن القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولاً ، وأنزله على رسوله وحياً ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية . فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى : إن هذا إلا قول البشر - علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر)
 
ش : هذه قاعدة شريفة ، وأصل كبير من أصول الدين ، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس . وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما ، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة .
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :
أحدها : أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني ، إما من العقل الفعال عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة .
وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه ، وهذا قول المعتزلة .
وثالثها : أنه معنى واحد قائم بذات الله ، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرانيه كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه ، كالاشعري وغيره .
ورابعها : أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث .
وخامسها : أنه حروف وأصوات ، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً ، وهذا قول الكرامية وغيرهم .
وسادسها : أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته ، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل اليه الرازي في المطالب العالية .
وسابعها : أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي .
وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الاصوات ، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه .
وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع ، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة .
وقول الشيخ رحمه الله وإن القرآن كلام الله إن بكسر الهمزة - عطف على قوله : إن الله واحد لا شريك له ثم قال : وإن محمداً عبده المصفى . وكسر همزة إن في المواضع الثلاثة ، لأنها معمول القول ، أعني قوله في أول كلامه : نقول في توحيد الله .
وقوله : كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً : -رد على المعتزلة وغيرهم . فإن المعتزلة تزعم أن القران لم يبد منه ، كما تقدم حكاية قولهم ، قالوا : وإضافته إليه اضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله ، يحرفون الكلام عن مواضعه ! وقولهم باطل ، فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان ، فاضافة الأعيان الى الله للتشريف ، وهي مخلوقة له ، كبيت الله ، وناقة الله ، بخلاف إضافة المعاني ، كعلم الله ، وقدرته ، وعزته ، وجلاله ، وكبريائه ، وكلامه ، وحياته ، وعلوه ، وقهره - فإن هذا كله من صفاته ، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا .
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال ، وضده من أوصاف النقص . قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً . فكان عباد العجل - مع كفرهم - أعرف بالله من المعتزلة ، فإنهم لم يقولوا لموسى : وربك لا يتكلم أيضاً . وقال تعالى عن العجل أيضاً : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً . فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل .
وغاية شبهتهم أنهم يقولون : يلزم منه التشبيه والتجسيم ؟ فيقال لهم : إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم . ألا ترى أنه تعالى قال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم . فنحن نؤمن أنها تتكلم ، ولا نعلم كيف تتكلم . وكذا قوله تعالى : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وكذلك تسبيح الحصا والطعام ، وسلام الحجر ، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من لديه المعتمد على مقطع الحروف .
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله : منه بدا بلا كيفية قولاً ، أي : ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به . وأكد هذا المعنى بقوله قولا ، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة ، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله : وكلم الله موسى تكليماً . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!
ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة - : أريد أن تقرأ : وكلم الله موسى ، بنصب اسم الله ، ليكون موسى هو المتكلم لا الله ! فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا ، فكيف تصنع بقوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ؟ ! فبهت المعتزلي !
وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم . قال تعالى : سلام قولاً من رب رحيم ، فعن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا أبصارهم ، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، وهو قول الله تعالى : سلام قولاً من رب رحيم ، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ، ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، وتبقى بركته ونوره . رواه ابن ماجه وغيره . ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام ، وإثبات الرؤية ، واثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً ، و[قد] قال تعالى : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ، فأهانهم بترك تكليمهم ، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم ، [و] هو الصحيح ، إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين ، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء ، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً . وقال البخاري في صحيحه : باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة ، وساق فيه عدة أحاديث . فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى ، وتكليمه لهم . فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة . وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به .
وأما استدلالهم بقوله تعالى : الله خالق كل شيء ، والقرآن شيء ، فيكون داخلاً في عموم كل فيكون مخلوقاً ! ! فمن أعجب العجب . وذلك : أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وإنما يخلقها العباد جميعها ، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل ، وأدخلوا كلام الله في عمومها ، مع أنه صفة من صفاته ، به تكون الأشياء المخلوقة ، إذ بأمره تكون المخلوقات ، قال تعالى : والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر . ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً لزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر ، والآخر بآخر ، إلى ما لا نهاية له ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل . وطرد باطلهم : أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وذلك صريح الكفر ، فإن علمه شيء ، وقدرته شيء ، وحياته شيء ، فيدخل ذلك في عموم كل ، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره ؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه ! وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات ، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق . وإنما قالت الجلود : أنطقنا الله ، ولم تقل : نطق الله ، بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره ، زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً ! ! تعالى الله عن ذلك . وقد طرد ذلك الاتحادية ، فقال ابن عربي :
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ! !
ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره ، لصح أن يقال للبصير : أعمى ، وللأعمى : بصير! لأن البصير قد قام وصف الأعمى بغيره ، والأعمى قد قام وصف البصير بغيره ! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره ، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك .
وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسيى بين يدي المأمون ، بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل ، وألزمه الحجة ، فقال بشر : يا أمير المؤمنين ، ليدع مطالبتي بنص التنزيل ، ويناظرني بغيره ، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال . قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك ؟ فقال بشر : [اسأل] أنت ، وطمع في فقلت له : يلزمك واحده من ثلاث لا بد منها : إما أن تقول : أن الله خلق القرآن ، وهو عندي أنا كلامه - في نفسه ، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه ، أو خلقه في غيره ؟ قال : أقول : خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب . فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ، ودع بشراً فقد انقطع . فقال عبد العزيز : أن قال خلق كلامه في نفسه ، فهذا محال ، لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة ، ولا يكون فيه شيء مخلوق وأن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، فهو محال أيضاً ، لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره - هو كلام الله ! وأن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته ، فهذا محال : لا يكون الكلام إلا من متكلم ، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ، ولا العلم إلا من عالم ، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته . فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً ، علم أنه صفة لله . هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة .
وعموم كل في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن . ألا ترى إلى قوله تعالى : تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح ؟ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : وأوتيت من كل شيء ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام . إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة الى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة .
والمراد من قوله تعالى : خالق كل شيء ، أي كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الاشارة إلى هذا المعنى عند قوله : ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه . بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم . فاذا كان قوله تعالى : الله خالق كل شيء مخلوقاً ، لا يصح أن يكون دليلاً .
وأما استدلالهم بقوله تعالى : إنا جعلناه قرآناً عربياً ، فما أفسده من استدلال ! فإن جعل إذا كان بمعنى خلق يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : وجعل الظلمات والنور ، وقوله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون . وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون . وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً . وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق ، قال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً . وقال تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم . وقال تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين وقال تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك وقال تعالى : ولا تجعل مع الله إلها آخر . وقال تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً . ونظائره كثيرة . فكذا قوله تعالى إنا جعلناه قرآناً عربياً .
وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى : نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة - على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها ! وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها ، فإن الله تعالى قال : فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن ، والنداء هو الكلام من بعد ، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي ، ثم قال : في البقعة المباركة من الشجرة . أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما يقول سمعت كلام زيد من البيت ، يكون من البيت لابتداء الغاية ، لا أن البيت هو المتكلم ! ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة ، لكانت الشجرة هي القائلة : يا موسى إني أنا الله رب العالمين . وهل قال : إني أنا الله رب العالمين ، غير رب العالمين ؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون : أنا ربكم الأعلى صدقاً ، إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله ! وقد فرقوا بين الكلامين على أصولهم الفاسدة : أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون ! ! فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله . وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد ، إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : فقد قال تعالى : إنه لقول رسول كريم . وهذا يدل على أن الرسول أحدثه ، إما جبرائيل أو محمد .
قيل : ذكر الرسول معرف أنه مبلغ عن مرسله ، لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي ، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأ من جهة نفسه . وأيضاً : فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل ، وفي الأخرى محمد ، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر. وأيضاً : فقوله رسول أمين ، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به ، يبلغه عن مرسله . وأيضاً : فإن الله قد كفر من جعله قول البشر ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد ، بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر. ولا فرق بين أن يقول : إنه قول بشر، أو جني ، أو ملك ، والكلام كلام من قاله مبتدئاً ، لا من قاله مبلغاً . ومن سمع قائلاً يقول :
‌ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
- قال : هذا شعر امرىء القيس ، ومن سمعه يقول : إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى - : قال : هذا كلام الرسول ، وإن سمعه يقول : الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين - : قال : هذا كلام الله ، إن كان عنده خبر ذلك ، وإلا قال : لا أدري كلام من هذا ؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذب . ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً ، يقول له : هذا كلام من ؟ هذا كلامك أو كلام غيرك ؟
وبالجملة، فأهل السنة كلهم ، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف ، متفقون على أن كلام الله غير مخلوق . ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً ، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم ، وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق ، ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب ، بل هو حق وصدق ، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين .
والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته ؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا ، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه . ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع - معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه ، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع .
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة ، لم يكن بينهم نزاع ، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه ، فرق بها بينهم . وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد . والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله : أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم . وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر ، فإنه قال : والقرآن في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره ، وعن فرعون وابليس - فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا . انتهى . فقوله : ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته - يعلم منه أنه حين جاء كلمه ، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول يا موسى، كما يفهم ذلك من قوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء ، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره . وقوله : الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً .
وبالجملة : فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله . وما يقوله من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له . والصفة لا تقوم الا بالموصوف - : فهو حق يجب قبوله والقول به . فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما .
فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به . قلنا : هذا القول مجمل ، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك ، ونصوص الأئمة أيضاً ، مع صريح العقل .
ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه : أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، وأنه هو الذي تكلم به وقاله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى . ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه ، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز . ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه ، فلا يثبتوا صفة غيره ، فإنهم إذا قالوا : يعلم لا كعلمنا ، قلنا : ويتكلم لا كتكلمنا ، وكذلك سائر الصفات . وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة ، أو حي لا تقوم به الحياة ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، فهل يقول عاقل إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق ؟ بل هذا كقوله : أعوذ برضاك من سخطك . وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وكقوله : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . وكقوله : وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا . كل هذه من صفات الله تعالى .
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها ، وإنما أشير إليها هنا إشارة .
وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد ، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات ، لا في المدلول . وهذه العبارات مخلوقة ، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها ، فإن عبر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبر بالعبرانية فهو توراة ، فاختلفت العبارات لا الكلام . قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً !
وهذا الكلام فاسد ، فإن لازمه أن معنى قوله : ولا تقربوا الزنى ، هو معنى قوله : وأقيموا الصلاة . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين ! ومعنى سورة الاخلاص هو معنى تبت يدا أبي لهب . وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده ، وعلم أنه مخالف لكلام السلف . والحق : أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام اللة حقيقة ، وكلام الله تعالى لا يتناهى ، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء ، ولا يزال كذلك . قال تعالى : قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً . وقال تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم . ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله ، وليس هو كلام الله ، لما حرم على الجنب المحدث مسه ، ولو كان ما يقرأه القارىء ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته . بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن ، مكتوب في المصاحف ، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر . وهو في هذه المواضع كلها حقيقة ، وإذا قيل : فيه خط فلان وكتابته - : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : فيه مداد قد كتب به - : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : المداد في المصحف - : كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل : فيه السماوات والأرض ، وفيه محمد وعيسى ، ونحو ذلك . وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل : فيه كلام الله . ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب . وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارىء ، والمقروء الذي هو قول الباري ، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً ، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً ألا كل شيىء ما خلا الله باطل من خط كاتب معروف . لقال : هذا من كلام لبيد حقيقة ، وهذا خط فلان حقيقة ، وهذا كل شيء حقيقة ، وهذا خبر حقيقة ، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى .

تابع قوله : ( وإن القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولاً ، وأنزله على رسوله وحياً ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية . فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى : إن هذا إلا قول البشر - علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر) .

والقرآن في الأصل : مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة ، قال تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً . وقال صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم . وتارة يذكر ويراد به المقروء ، قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . وقال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . وقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين . فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي ، ولكن الأعيان تعلم ، ثم تذكر، ثم تكتب . فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة . وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة ، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان .
والفرق بين كونه في زبر الأولين ، وبين كونه في رق منشور، أو لوح محفوظ ، أو في كتاب مكنون - : واضح . فقوله عن القرآن : وإنه لفي زبر الأولين ، أي ذكره ووصفه والأخبار عنه ، كما أن محمداً مكتوب عندهم . إذ القرآن أنزله الله على محمد ، لم ينزله على غيره أصلاً ، ولهذا قال في الزبر، ولم يقل في الصحف ، ولا في الرق ، لأن الزبر جمع زبور و الزبر هو : الكتابة والجمع ، فقوله : وإنه لفي زبر الأولين أي : مزبور الأولين ، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس . وهذا مثل قوله : الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، أي : ذكره ، بخلاف قوله . في رق منشور و لوح محفوظ و كتاب مكنون ، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة ، مثل الكون والإستقرار والحصول ونحو ذلك ، أو يقدر : مكتوب في كتاب ، أو في رق . والكتاب : تارة يذكر ويراد به محل الكتابة ، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب . ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب ، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه - فإن تلك إنما يكتب ذكرها . وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق .
وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية : هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه ، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه . فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم . وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه . والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارىء كلام الله ، وقد قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله . وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله . والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : حتى يسمع كلام الله ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله . والأصل الحقيقة . ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله - : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة، وكفى بذلك ضلالا .
وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال : إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه . فإن الطحاوي رحمه الله يقول : كلام الله منه بدا. وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا، وإليه يعود. وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدأ الكلام من ذلك المحل . فقال السلف : منه بدا أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ولكن حق القول مني . قل نزله روح القدس من ربك بالحق . ومعنى قولهم : وإليه يعود- : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف . كما جاء ذلك في عدة آثار .
وقوله بلا كيفية : أي : لا تعرف كيفية تكلمه به قولاً ليس بالمجاز ، وأنزله على رسوله وحياً ، أي : أنزله إليه على لسان الملك ، فسمعه الملك جبرائيل من الله ، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الملك ، وقرأ على الناس . قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً . وقال تعالى : نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين . وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى .
وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، أو إنزاله الحديد ، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام .
والجواب : أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله . قال تعالى : حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . وقال تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . وقال تعالى : تنزيل من الرحمن الرحيم . وقال تعالى : تنزيل من حكيم حميد . وقال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . وقال تعالى : فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين . وقال تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق . وقال تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق . وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء . قال تعالى : أنزلنا من السماء ماءً طهوراً . والسماء : العلو . وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن ، والمزن : السحاب . وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات . وإنزال الحديد والأنعام مطلق ، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال ؟ ! فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال ، وهي عالية على الأرض ، وقد قيل أنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود . والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال : أنزل ولم يقل نزل ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الارض . ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء ، وينزل ماء الفحل من علو الى رحم الأنثى ، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل . وعلى هذا فيحتمل قوله ، وأنزل لكم من الأنعام - : وجهين : أحدهما ، أن تكون من لبيان الجنس . الثاني : أن تكون من لابتداء الغاية . وهذان الوجهان يحتملان في قوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً .
وقوله : وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على الوجه المذكور وإنزاله ، أي هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهم السلف الصالح ، وأن هذا حق وصدق .
وقوله : وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية . رد على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر. وفي قوله : بالحقيقة رد على من قال : إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه وإنما هو الكلام النفساني ، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به - : أن هذا كلام حقيقة ، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً ، ولزم أن لا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله ، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله ، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده ، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس ، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى . وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه ، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد أخرس ، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائماً بنفسه ، لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً ، بل فهم معنى مجرداً ، ثم عبر عنه ، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي ، وأنا الله خلق في بعض الأجسام كالهوى الذي هو دون الملك هذه العبارة .
ويقال لمن قال إنه معنى واحد - : هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه ؟ فإن قال : سمعه كله ، فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله وفساد هذا ظاهر . وإن قال : بعضه ، فقد قال يتبعض . وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئاً من كلامه .
ولما قال تعالى للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة . ولما قال لهم . اسجدوا لآدم . وأمثال ذلك - : هل هذا جميع كلامه أو بعضه ؟ فإن قال : إنه جميعه ، فهذا مكابرة ، وإن قال : بعضه ، فقد اعترف بتعدده .
وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق - : أربعة أقوال : أحدها : أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا ، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً ، وهذا قول السلف . الثاني : اسم اللفظ فقط ، والمعنى ليس جزء مسماه ، بل هو مدلول مسماه ، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم . الثالث : أنه إسم للمعنى فقط ، وإطلاقه على اللفظ مجاز ، لأنه دال عليه ، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه .
الرابع : أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية، ولهم قول خامس ، يروى عن أبي الحسن ، أنه مجاز في كلام الله ، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم ، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم ، بخلاف كلام الله ، فإنه لا يقوم عنده بالله ، فيمتنع أن يكون كلامه . وهذا مبسوط في موضعه . وأما من قال إنه معنى واحد ، واستدل عليه بقول الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
: فاستدلال فاسد . ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا هذا خبر واحد! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به ! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل ، وليس هو في ديوانه ؟ ! وقيل إنما قال : إن البيان لفي الفؤاد وهذا أقرب إلى الصحة ، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الإستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت ! أي : شيء من الإله بشيء من الناس ! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟! وأيضاً : فمعناه غير صحيح ، إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه ، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه ، وإنما أشير اليه إشارة .
وهنا معنى عجيب ، وهو : أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت ! فإنهم يقولون : كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه ، وأما النظم المسموع فمخلوق ، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام ، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه !
ويرد قول من قال : بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس - : قوله صلى الله عليه وسلم : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس . وقال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإنما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة . واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته . واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب ، من تصديق بأمور دنيوية وطلب - لا يبطل الصلاة ، وإنما يبطلها التكلم بذلك . فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام .
وأيضاً : ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أوتعمل به . فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام ، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به ، والمراد : حتى ينطق به اللسان ، باتفاق العلماء . فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة ، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب .
وأيضاً ففي السنن : أن معاذاً رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . فبين أن الكلام إنما هو باللسان . فلفظ القول و الكلام وما تصرف منهما ، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل - : إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى . ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ، ثم انتشر .
ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما - ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر ، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة ، وعرفوا معناه ، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك .
ولا شك أن من قال : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وأن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارىء حكاية كلام الله وهو مخلوق - : فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر، فإن الله يقول : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله . أفتراه سبحانه وتعالى يشير الى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع ؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع ، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع .
وقوله : لا يأتون بمثله - أفتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ، وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ، ولا إلى الوقوف عليه .
فإن قالوا : إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع ، فأما أن يشير إلى ذاته فلا - فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق ، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة ، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه . وهذا تصريح بأن صفات الله محكية ، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله ، فأين عجزهم ؟! ويكون التالي - في زعمهم - قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف. وليس القرآن إلا سوراً مسورة ، وآيات مسطرة ، في صحف مطهرة . قال تعالى : فاتوا بعشر سور مثله مفتريات . بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون . في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة . ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات . قال صلى الله عليه وسلم : أما إني لا أقول (آلم) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف . وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين . قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار : إن القرآن إسم للنظم والمعنى . وكذا قال غيره من أهل الأصول . وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله : أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه - فقد رجع عنه - وقال : لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية . وقالوا : لو قرأ بغير العربية إما أن يكون مجنوناً فيداوى ، أو زنديقاً فيقتل ، لأن الله تكلم به بهذه اللغة ، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه .
وقوله : ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر. لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله ، بل قال إنه كلام محمد أو غيره من الخلق ، ملكاً كان أو بشراً . وأما إذا أقر أنه كلام الله ، ثم أول وحرف - فقد وافق قول من قال : إن هذا إلا قول البشر . في بعض ما به كفر ، وأولئك الذين استزلهم الشيطان - وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى .
وقوله : ولا يشبه قول البشر، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق . قال تعالى : ومن أصدق من الله حديثاً وقال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله . الآية . وقال تعالى : قل فاتوا بسورة مثله . فلما عجزوا - وهم فصحاء العرب ، مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله ، تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله . وإعجازه من جهة نظمه ومعناه ، لا من جهة أحدهما فقط . هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين ، أي بلغة العربية . فنفي المشابهة من حيث التكلم ، ومن حيث التكلم به ، ومن حيث النظم والمعنى ، لا من حيث الكلمات والحروف . وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها . ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن ؟ كما في قوله تعالى : الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه . الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق الآية . المص * كتاب أنزل إليك ، الآية . الر تلك آيات الكتاب الحكيم . وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه ، بل خاطبكم بلسانكم .
ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به ، وسماع جبرائيل منه ، كما يتذرعون بقوله تعالى : ليس كمثله شيء ، إلى نفي الصفات . وفي الآية ما يرد عليهم قولهم ، وهو قوله تعالى : وهو السميع البصير . كما في قوله تعالى : فاتوا بسورة مثله ما يرد على من ينفي الحرف ، فإنه قال : فاتوا بسورة ، ولم يقل فأتوا بحرف ، أو بكلمة . وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات . ولهذا قال أبو يوسف و محمد : إن أدنى ما يجزىء في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك . والله أعلم