قوله : ( فمن رام علم ما حظر عنه علمه ، ولم يقنع بالتسليم فهمه ، حجبه مرامه عن خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان ).
 
ش : هذا تقرير للكلام الأول ، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين - بل وفي غيرها- بغير علم . وقال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا . وقال تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير . وقال تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق . وقال تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين . وقال تعالى : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى .
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا : ما ضربوه لك إلا جدلاً . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن . وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم . خرجاه في الصحيحين .
ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده ، فإنه يقول برأيه وهواه ، ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله ، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول ، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله . قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه . أي : عبد ما تهواه نفسه . وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق ، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عليه :
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ، ويعارضونها بها ، ويقدمونها على حكم الله ورسوله . وأحبار السوء ، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة ، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله ، وتحريم ما أباحه ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، وإطلاق ما قيده ، وتقييد ما أطلقه ، ونحو ذلك . والرهبان وهم جهال المتصوفة ، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع ، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس . فقال الأولون : إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة ! وقال الآخرون : إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل ! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف ، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف .
ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين وهومن أجل كتبه ، أو أجلها : فإن قلت : فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب اليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف . فمن قائل : أنه بدعة وحرام ، وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام . ومن قائل : إنه فرض ، إما على الكفاية ، وإما على الأعيان ، وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات ، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله . قال : وإلى التحريم ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان وجميع أئمة الحديث من السلف وساق الألفاظ عن هؤلاء . قال : وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه ، قالوا : ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لما يتولد منه من الشر. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : هلك المتنطعون . أي المتعمقون في البحث والاستقصاء . واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه . ثم ذكر بقية استدلالهم ، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر . إلى أن قال : فإن قلت : فما المختار عندك ؟ فأجاب بالتفصيل ، فقال : فيه منفعة، وفيه مضرة : فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب ، كما يقتضيه الحال . وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام . قال : فأما مضرته ، فإثارة الشبهات ، وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ، وذلك مما يحصل بالابتداء ، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ، ويختلف فيه الأشخاص . فهذا ضرره في اعتقاد الحق ، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة ، وتثبيتها في صدورهم ، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل . قال : وأما منفعته ، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف . قال : وهذا إذا سمعته من محدث أوحشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ، ثم قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ، وجاوز ذلك الى التعمق في علوم أخر سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود . ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله .
وكلام مثله في ذلك حجة بالغة ، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديدا على معان صحيحة ، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق . ومن ذلك : مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة ، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها ، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها ، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى . وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً ، وأحسن تفسيراً ، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد . كما قيل :
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر لا المغني ولا العمد
يحللون بـزعم منهـم عـــقدا وبالذي وضعـوه زادت العـقد
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه ، الشبه والشكوك ، والفاضل الذي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك .
ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين . بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل ، ويتدبر معناه ويعقله ، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي ، ويعرف دلالته على هذا وهذا ، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة ، فيقال لأصحابها : هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا ، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل ، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد . وهذا مثل لفظ المركب والجسم والتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ، ونحو ذلك . فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح ، بل ولا في اللغة ، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها ، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية ، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل .
مثال ذلك ، في التركيب . فقد صار له معان : أحدها . التركيب من متباينين فأكثر . ويسمى : تركيب مزج ، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك ، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى ، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو نحوه من صفات الكمال ، أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور .
والثاني : تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك ، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب . الثالث : التركيب من الأجزاء المتماثلة ، وتسمى : الجواهر المفردة . الرابع : التركيب من الهيولى والصورة ، كالخاتم مثلا ، هيولاه : الفضة ، وصورته معروفة . وأهل الكلام قالوا : إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة ، ولهم كلام في ذلك يطول ، ولا فائدة فيه ، وهو أنه : هل يمكن التركيب من جزئين ، أو من أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه . والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء ، وإنما قولهم مجرد دعوى ، وهذا مبسوط في موضعه . الخامس : التركيب من الذات والصفات ، هم سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى ، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة ، ولا في استعمال الشارع ، فلسنا نوافقهم على هذه التسمة ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً - : فنقول لهم : العبرة للمعاني لا للألفاظ ، سموه ما شئتم ، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم ! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً ، لم يحرم بهذه التسمية . السادس : التركيب من الماهية ووجودها ، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران ، وأما في الخارج ، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ، ووجودها مجرد عنها ؟ هذا محال . فترى أهل الكلام يقولون : هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده ؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك . وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل .
وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله ، والإشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة . وإنما سمي هؤلاء : أهل الكلام ، لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً ، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد ، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس ، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر ، ومع من ينكر الحس . وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته - مع وجود النص ، أو عارض النص بالمعقول - فقد ضاهى إبليس ، حيث لم يسلم لأمر ربه ، بل قال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً . وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً . أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً