قوله : ( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق )
 
ش : الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً ، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير ، تغمده الله برحمته ، في آخر تاريخه الكبير، المسمى بـ البداية والنهاية . فمنها : ما رواه البخاري رحمه الله تعالى ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن ، وأن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء . وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليردن علي ناس من أصحابي ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك . رواه مسلم . وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك ، قال : أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة ، فرفع رأسه مبتسماً ، إما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أنزلت عين آنفاً سورة ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ، حتى ختمها ، ثم قال لهم : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . ورواه مسلم ، ولفظه : هو نهر وعدنيه ربي ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، والباقي مثله . ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض ، والحوض في العرصات قبل الصراط ، لأنه يختلج عنه ، ويمنع منه ، أقوام قد ارتدوا على أعقابهم ، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط . وروى البخاري و مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنا فرطكم على الحوض . والفرط : الذي يسبق إلى الماء . وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني فرطكم على الحوض ، من مر علي شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم . قال أبو حازم : فسمعني النعمان ابن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم . فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري ، سمعته وهو يزيد : فأقول : إنهم من أمتي فقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فقال : سحقاً سحقاً لمن غير بعدي . سحقاً : أي بعداً .
والذي يتخلص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض : أنه حوض عظيم ، ومورد كريم ، يمد من شراب الجنة ، من نهر الكوثر ، الذي هو أشد بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، وأطيب ريحاً من المسك ، وهو في غاية الإتساع ، عرضه وطوله سواء ، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر . وفي بعض الأحاديث : أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع ، وأنه ينبت في خلاله من المسك والرضراض من اللؤلؤ [و] قضبان الذهب ، ويثمر ألوان الجواهر ، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء . وقد ورد في أحاديث : أن لكل نبي حوضاً ، وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها وارداً . جعلنا الله منهم بفضله وكرمه .
قال العلامة أبو عبد الله القرطبي [رحمه الله] في التذكرة : واختلف في الميزان والحوض : أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل : الميزان ، وقيل : الحوض . قال أبو الحسن القابسي : والصحيح أن الحوض قبل . قال القرطبي : والمعنى يقتضيه ، فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم ، كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط . قال أبو حامد الغزالي رحمه الله ، في كتاب كشف علم الآخرة : حكى بعض السلف من أهل التصنيف ، أن الحوض يورد بعد الصراط ، وهو غلط من قائله . قال القرطبي : هو كما قال ، ثم قال القرطبي : ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض ، بل في الأرض المبدلة ، أرض بيضاء كالفضة ، لم يسفك فيها دم ، ولم يظلم على ظهرها أحد قط ، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء . انتهى . فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض ، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر