قوله : (والشفاعة التي ادخرها لهم حق ، كما روي في الأخبار)
 
ش : الشفاعة أنواع : منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع .
النوع الأول : الشفاعة الأولى ، وهي العظمى ، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين . في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين ، أحاديث الشفاعة .
منها : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فدفع إليه منها الذراع ، وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ، ثم قال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد [واحد] ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون الى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، [نفسي نفسي] ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحاً ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون ابراهيم ، فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، ألا ترى [ إلى ] ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر كذباته ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى : فيقولون : يا موسى، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، قال : هكذا هو ، وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى [ إلى ] ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده [ مثله ، ولم يذكر له ذنباً ] ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ذنبك ، ما تقدم منه وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأقول : [يا] رب إمتي أمتي ، [ يا رب أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ] ، فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى .
أخرجاه في الصحيحين بمعناه ، واللفظ للإمام أحمد .
والعجب كل العجب ، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصور ، فإنه المقصود في هذا المقام ، ومقتضى سياق أول الحديث ، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا الى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار . وكان مقصود السلف - في الإقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم ، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث . وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله ، لكن من مضمونه : أنهم يأتون آدم ثم نوحاً ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم يأتون رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له : الفحص ، فيقول الله : ما شأنك ؟ وهو أعلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفعني ، في خلقك ، فاقض بينهم ، فيقول سبحانه وتعالى : شفعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينهم ، قال : فأرجع فأقف مع الناس ، ثم ذكر انشقاق السموات ، وتنزل الملائكة في الغمام ، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح ، قال : فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ، ثم يقول : إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم ، وأرى أعمالكم ، فأنصتوا إلي ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، إلى أن قال : فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة ، قالوا : من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم ، إنه خلقه الله بيده ، ونفخ فيه روحه ، [وكلمه] قبلاً ، فيأتون آدم ، فيطلبون ذلك إليه ، وذكر نوحاً ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمد صلى الله عليه وسلم . . إلى أن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، ثم استفتح ، فيفتح لي ، فأحيا ويرحب بي ، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجداً ، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول الله لي : ارفع يا محمد ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فإذا رفعت رأسي ، قال الله - وهو أعلم - : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله عز وجل : قد شفعتك ، وأذنت لهم في دخول الجنة . . . الحديث . رواه الأئمة : ابن جرير في تفسيره ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، والبيهقي وغيرهم .
النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة ، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار ، أن لا يدخلونها .
النوع الرابع : شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم . وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة ، وخالفوا فيما عداها من المقامات ، مع تواتر الأحاديث فيها .
النوع الخامس : الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن ، حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، والحديث مخرج في الصحيحين .
النوع السادس : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه ، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه . ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع : فإن قيل : فقد قال تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين . قيل له : لا تنفعه في الخروج من النار ، كما تنفع عصاة الموحدين ، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة .
النوع السابع : شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة ، كما تقدم . وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا أول شفيع في الجنة .
النوع الثامن : شفاعته في أهل الكبائر من أمته ، ممن دخل النار ، فيخرجون منها ، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث . وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة ، فخالفوا في ذلك ، جهلاً منهم بصحة الأحاديث ، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته . وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً . وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات . ومن أحاديث هذا النوع ، حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . رواه الإمام أحمد رحمه الله . وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي ، قال : اجتمعنا ، ناس من أهل البصرة ، فذهبنا إلى أنس بن مالك ، وذهبنا معنا بثابت [البناني إليه] ، يسأله لنا عن حديث الشفاعة ، فإذا هو في قصره ، فوافقناه يصلي الضحى ، فاستأذنا ، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه ، فقلنا لثابت : لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة ، [فقال : يا أبا حمزة ، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة ، جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة] ، فقال : حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع لنا إلى ربك ، فيقول : لست لها ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله ، فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد [صلى الله عليه وسلم]، فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن علي ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها ، لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخر له ساجداً ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجداً ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان بما قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجداً ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل . قال : فلما خرجنا من عند أنس ، قلت [لبعض أصحابنا] لو مررنا بالحسن ، وهو متوار في منزل أبي خليفة ، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك ، فأتيناه ، فسلمنا عليه ، فأذن لنا ، فقلنا له : يا أبا سعيد ، جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك ، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة ، فقال : هيه ؟ فحدثاه بالحديث ، فانتهى الى هذا الموضع ، فقال : هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا ، فقال : لقد حدثني وهو جميع ، منذ عشرين سنة ، فما أدري ، أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ فقلنا : يا أبا سعيد ، فحدثنا ، فضحك وقال : خلق الإنسان عجولاً ! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم ، حدثني كما حدثكم [به] ، قال : ثم أعود الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجداً ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أئذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله ، فيقول : وعزتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله . وهكذا رواه مسلم . وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء . وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً ، قال : فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرا قط ، الحديث .
ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال : فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم : يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا . والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر . وأما أهل السنة والجماعة، فيقرون بشفاعة نبينا صصلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وشفاعة غيره ، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً ، كما في الحديث الصحيح ، حديث الشفاعة : إنهم يأتون آدم ، ثم نوحاً ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، فيقول لهم عيسى عليه السلام : اذهبوا إلى محمد ، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأذهب ، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً ، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي ، لا أحسنها الآن ، فيقول : أي محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، فأقول : ربي : أمتي ، فيحد لي حداً ، فأدخلهم الجنة ، ثم أنطلق فأسجد ، فيحد لي حداً ذكرها ثلاث مرات .
وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء ، ففيه تفصيل : فإن الداعي تارة يقول : بحق نبيك أو بحق فلان ، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته ، فهذا محذور من وجهين : أحدهما : أنه أقسم بغير الله . والثاني : اعتقاده أن لأحد على الله حقاً . ولا يجوز الحلف بغير الله ، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه ، كقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين . وكذلك ما ثبت في الصحيحين من صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه ، وهو رديفه : يا معاذ ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقهم عليه أن لا يعذبهم . فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق ، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق ، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير ، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم ، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به ، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً . وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قول الماشي الى الصلاة : أسألك بحق ممشاي هذا ، وبحق السائلين عليك ، فهذا حق السائلين ، هو أوجبه على نفسه ، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم ، وللعابدين أن يثيبهم ، ولقد أحسن القائل :
ما للعباد عليه حق واجــــب كلا ، ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله ، أو نعموا فبفضله وهو الكريم السامع
فإن قيل : فأي فرق بين قول الداعي : بحق السائلين عليك وبين قوله : بحق نبيك أو نحو ذلك ؟ فالجواب : أن معنى قوله : بحق السائلين عليك أنك وعدت السائلين بالإجابة ، وأنا من جملة السائلين ، فأجب دعائي ، بخلاف قوله : بحق فلان - فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق - فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل . فكأنه يقول : لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي ! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة ؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء ! وقد قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ، إنه لا يحب المعتدين . وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة ، ولا عن التابعين ، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم ، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية . والدعاء من أفضل العبادات ، والعبادات مبناها على السنة والإتباع ، لا على الهوى والإبتداع .
وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان ، فذلك محذور أيضاً ، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز ، فكيف على الخالق ؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد أشرك . ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم : يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة و محمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل : اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه . وتارة يقول : بجاه فلان عندك ، يقول : نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك . ومراده أن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا . وهذا أيضاً محذور ، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته ، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه ، يطلبون منه أن يدعو لهم ، وهم يؤمنون على دعائه ، كما في الاستسقاء وغيره . فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون - : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله ، ليس المراد أنا نقسم عليك [به] ، أو نسألك بجاهه عندك ، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس .
وتارة يقول : باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم ، ونحو ذلك . فهذا من أحسن ما يكون في الدعاء والتوسل والاستشفاع .
فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال ، غلط بسببه من لم يفهم معناه : فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً ، وهذا في حياته يكون ، أو لكون الداعي محباً له ، مطيعاً لأمره ، مقتدياً به ، وذلك أهل للمحبة والطاعة والإقتداء ، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، وإما بمحبة السائل واتباعه ، أو يراد به الاقسام به والتوسل بذاته ، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه .
وكذلك السؤال بالشيء ، قد يراد به التسبب به ، لكونه سبباً في حصول المطلوب ، وقد يراد [به] الإقسام به .
ومن الأول : حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما ، فإن الصخرة انطبقت عليهم ، فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة ، وكل واحد منهم يقول : فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون . فهؤلاء : دعوا الله بصالح الأعمال ، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ، ويتوجه به إليه ، ويسأله به ، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله .
فالحاصل أن الشفاعة عند الله [ليست] كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعة في الطلب ، بمعنى أنه صار شفعاً فيه بعد أن كان وتراً ، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه ، وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب ، فقد شفع الطالب والمطلوب منه ، والله تعالى وتر ، لا يشفعه أحد ، [فلا يشفع عنده أحد] إلا بإذنه ، فالأمر كله إليه ، فلا شريك له بوجه . فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، [واسأل تعطه] ، واشفع تشفع ، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة ، فالأمر كله لله . كما قال تعالى : قل إن الأمر كله لله . وقال تعالى : ليس لك من الأمر شيء . وقال تعالى : ألا له الخلق والأمر ، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته ، كما قال صلى الله عليه وسلم : اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء . وفي الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا بني عبد مناف ، لا أملك لكم من الله شيئاً ، يا صفية يا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئاً ، يا عباس عم رسول الله ، لا أملك لك من الله شيئا . وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، أو شاة لها يعار ، أو رقاع تخفق ، فيقول : أغثني أغثني ، فأقول : قد أبلغتك ، لا أملك لك من الله من شيء . فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به : لا أملك لكم من الله من شيء فما الظن بغيره ؟ وإذا دعاه الداعي ، وشفع عنده الشفيع ، فسمع الدعاء ، وقبل الشفاعة ، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق ، فإنه سبحانه [وتعالى] هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع ، وهو الخالق لأفعال العباد ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه . وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء