وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ امْرَأَةً مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّي فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقِيلَ الْحَوْلَاءُ
بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ (...)
 
وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ امْرَأَةً مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّي فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقِيلَ الْحَوْلَاءُ
بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَرَفْتُ
الْكَرَاهِيَةَ
الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86
فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكَمَ بِهِ طَاقَةٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّمْهِيدِ مَنْ أَسْنَدَهُ وَوَصَلَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُسْنَدٌ
وَالْحَوْلَاءُ امْرَأَةٌ قُرَشِيَّةٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَالتُّوَيْتَاتُ فِي بَنِي أَسَدٍ
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا فَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ
الثَّوَابِ وَالْعَطَاءِ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى تَمَلُّوا أَنْتُمُ الْعَمَلَ وَتَقْطَعُونَهُ فَيَنْقَطِعَ عَنْكُمْ ثَوَابُهُ وَلَا
يَسْأَمُ مِنْ أَفْضَالِهِ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِسَآمَتِكُمْ عَنِ الْعَمَلِ
وَأَنْتُمْ مَتَى تَكَلَّفْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ مَا لَا تُطِيقُونَ وَأَسْرَفْتُمْ لَحِقَكُمُ الْمَلَلُ وَضَعُفْتُمْ عَنِ
الْعَمَلِ فَانْقَطَعَ عنكم الثواب بانقطاع العمل
يحضهم صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْقَلِيلِ الدَّائِمِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ النُّفُوسَ لَا
تَحْتَمِلُ الْإِسْرَافَ عَلَيْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ
وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ بن مسعود قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ
مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا
وَمِنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَشَادُّوا الدِّينَ فَإِنَّهُ مَنْ غَالَبَ الدِّينَ يَغْلِبُهُ
الدِّينُ
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا يَقْطَعُ أَرْضًا وَلَا
يُبْقِي ظَهْرًا
الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ
اللَّيْلَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ نَفَهَتْ نَفْسُكَ
أَيْ أَعْيَتْ وَكَلَّتْ يُقَالُ لِلْمُعْيِي مُنَفِّهٌ وَنَافِهٌ وَجَمْعُ نَافِهٍ نُفَّهٌ
كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي عَمْرٍو قال الأصمعي الإيفال السَّيْرُ الشَّدِيدُ
وَأَمَّا الْوُغُولُ فَهُوَ الدُّخُولُ
وَقَدْ جَعَلَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْغُلُوَّ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ سَيِّئَةً
وَالتَّقْصِيرَ سَيِّئَةً فَقَالَ الْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ
وَأَمَّا لَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا فَهُوَ لَفْظٌ خَرَجَ عَلَى مِثَالِ لَفْظٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ سَوَاءً مَلَّ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَمَلُّوا وَلَا يَدْخُلُهُ مَلَالٌ فِي
شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا
وَإِنَّمَا جَاءَ لَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ إِذَا وَضَعُوا لَفْظًا
بِإِزَاءِ لَفْظٍ جَوَابًا لَهُ أَوْ جُزْءًا ذَكَرُوهُ بِمِثْلِ لَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ مَعْنَاهُ
أَلَا ترى إلى قوله عز وجل (وجزؤا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشُّورَى 40
وَقَوْلُهُ تَعَالَى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الْبَقَرَةِ 194
وَالْجَزَاءُ لَا يَكُونُ سَيِّئَةً وَالْقِصَاصُ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله والله خير المكرين) آل عمران
54
وقوله تعالى (إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم) القرة 14
وَقَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا) الطَّارِقِ 15 16
وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ مَكْرٌ وَلَا هُزُوٌ وَلَا كَيْدٌ إِنَّمَا هُوَ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَكَيْدِهِمْ
فَذَكَرَ الْجَزَاءَ بِمِثْلِ لَفْظِ الِابْتِدَاءِ لَمَّا وُضِعَ بِحِذَائِهِ وَقُبَالَتِهِ
فَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا أَيْ مَنْ مَلَّ
فَقَطَعَ عَمَلَهُ انْقَطَعَ عَنْهُ الْجَزَاءُ
الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88
رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ قَدْرَ مَا تَطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ
حَتَّى تَمَلُّوا
قَالَتْ وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ
وَإِنْ قَلَّ
وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ وَكَانَ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دَاوَمَ
عَلَيْهَا صَاحِبُهَا وَإِنْ قَلَّتْ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا
ثُمَّ قَرَأَ أَبُو سَلَمَةَ (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) الْمَعَارِجِ 23
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْقَوْلِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ فَرْضٌ وَلَوْ كَقَدْرِ حَلْبِ
شَاةٍ قَوْلٌ مَتْرُوكٌ وَشُذُوذٌ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى خِلَافِهِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ فَضِيلَةٌ لَا فَرِيضَةٌ وَلَوْ
كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضًا لَكَانَ مُقَدَّرًا مُوَقَّتًا مَعْلُومًا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا
حَدِّثِينِي عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فَقَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ فَإِنَّ أَوَّلَ هَذِهِ
السُّورَةِ نَزَلَتْ فَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ
وَحُبِسَتْ خَاتِمَتُهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أُنْزِلَ آخِرُهَا فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ
تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ
شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْبَابِ فِي التَّمْهِيدِ أَمَّا
حَدِيثُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كان
الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89
يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ يَقُولُ
لَهُمْ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَتْلُو (وأمر أهلك بالصلوة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) طه 132
فَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَمْ تَشْغَلْهُ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ إِلَيْهِ
مِنْهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ وَذَلِكَ لِفَضْلِ صَلَاةِ اللَّيْلِ
وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّفُ أَهْلَهُ مِنَ الصَّلَاةِ مَا كَانَ هُوَ يَفْعَلُهُ مِنْهَا بِاللَّيْلِ
وَيُحْتَمَلُ أن يكون إيقاضه أَهْلَهُ لِيُدْرِكُوا شَيْئًا مِنْ صَلَاةِ الْأَسْحَارِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِيهَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِيقَاظُهُ لَهُمْ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَيُّهَا كَانَ فَإِنَّهُ امْتَثَلَ
فِي ذَلِكَ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَ مَالِكٌ وَامْتَثَلَ والله أعلم قول الله عز وجل (يأيها الذين
ءامنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا التَّحْرِيمِ 6
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ