وقوله : ( وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه ، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسلم الحرمان ، ودرجة الطغيان ، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة ، فان الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه ، كما قال تعالى في كتابه : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فمن سأل : لم فعل ؟ فقد رد حكم الكتاب ، ومن رد حكم الكتاب ، كان من الكافرين ).
 
ش : أصل القدر سر الله في خلقه ، وهو كونه أوجد وأفنى ، وأفقر وأغنى ، وأمات وأحيا ، وأضل وهدى . قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه : القدر سر الله فلا نكشفه . والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور .
والذي عليه أهل السنة والجماعة : أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد . قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر 9 . وقال تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديراً . وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ، ولا يرضاه ولا يحبه ، فيشاؤه كوناً ، ولا يرضاه ديناً .
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة ، وزعموا : أن الله شاء الإيمان من الكافر ، ولكن الكافر شاء الكفر ، فردوا إلى هذا لئلا يقولوا : شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه ! ولكن صاروا : كالمستجير من الرمضاء بالنار! . فإنهم هربوا من شياء فوقعوا فيما هو شر منه ! فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى ، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر ، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! ! وهذا من أقبح الاعتقاد ، وهو قول لا دليل عليه ، بل هو مخالف للدليل .
روى اللالكائي ، من حديث بقية عن الأوزاعي ، حدثنا العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد المكي : عن ابن عباس قال : قيل لابن عباس : إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر ، فقال : دلوني عليه ، وهو يومئذ قد عمى ، فقالوا له : ما تصنع به ؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كأني بنساء بني فهر يطفن بالخرزج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك في الإسلام ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير ، كما أخرجوه من أن يقدر الشر . قوله : وهذا أول شرك في الإسلام . إلى آخره ، من كلام ابن عباس . وهذا يوافق قوله : القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . وروى عمرو بن الهيثم قال : خرجنا في سفينة ، وصحبنا فيها قدري ومجوسي ، فقال القدري للمجوسي : أسلم ، قال المجوسي : حتى يريد الله فقال القدري : إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد ! قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان ، فكان ما أراد الشيطان ! هذا شيطان قوي ! ! وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما ! ! . ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد ، فقال : يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي ، فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت ، فارددها عليه ! فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك ! قال : ولم ؟ قال : أخاف - كما أراد أن لا تسرق فسرقت - أن يريد ردها فلا ترد ! ! . وقال رجل لأبي عصام القسطلاني : أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني ، أيكون منصفا ؟ فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئاً هو له فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء .
وأما الأدلة من الكتاب والسنة : فقد قال تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين . وقال تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . وقال تعالى : وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً . وقال تعالى : من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم . وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء .
ومنشأ الضلال : من التسوية بين : المشيئة ، والإرادة ، وبين : المحبة ، والرضى ، فسوى الجبرية والقدرية ، ثم اختلفوا ، فقالت الجبرية : الكون كله بقضائه وقدره ، فيكون محبوباً مرضياً . وقالت القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له ، فليست مقدرة ولا مقضية ، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه . وقد دل على الفرق بين : المشيئة ، والمحبة . الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة . أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب ، فقد تقدم ذكر بعضها . وأما نصوص المحبة والرضى ، فقال تعالى : والله لا يحب الفساد . ولا يرضى لعباده الكفر . وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال . وفي المسند : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته . وكان من دعائه : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك . فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة . فالأول : الصفة ، والثاني : أثرها المرتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي ، هي بمشيئتك أيضاً ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ، فعياذي بك منك ، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقولك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك ، بل هو منك . فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية ، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته .
فإن قيل : كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه ؟ وكيف يشاؤه ويكونه ؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهته ؟ قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً ، وتباينت طرقهم وأقوالهم . فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره .
فالمراد لنفسه ، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد . والمراد لغيره ، قد لا يكون مقصوداً لما يريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث قضاؤه وايصاله إلى مراده . فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وإرادته . ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما . وهذا كالدواء الكريه ، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتأكل ، اذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، اذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه . بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وإن خفيت عنه عاقبته ، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية . فهو سبحانه يكره الشيء ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره ، وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوقه . من ذلك : أنه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والإعتقادات والإرادات ، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد ، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه . ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحب إليه من عدمها . منها : أنه يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذا الذات ، التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي سبب كل شر ، في مقابلة ذات جبرائيل ، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا . كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والدواء والداء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح ، والخير والشر . وذلك أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابلها بعضها ببعض ، وجعلها محال تصرفه وتدبيره . فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه . ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل : القهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والسريع العقاب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل . فإن هذه الأسماء والأفعال كمال ، لا بد من وجود متعلقها ، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء . ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم الى هذا بقوله : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم . ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته . فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك . فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس والمطر والرياح ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر . ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه . ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لله سبحانه [ وتعالى ] والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه . إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها .
فإن قيل : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟
فهذا سوال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن بدون الأب . والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب .
فإن قيل : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم ، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه ، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه ؟ هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب تعالى ، وهل يكون محباً لها من جهة إفضالها إلى محبوبه ، وإن كان يبغضها لذاتها ؟ والثاني : من جهة العبد ، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً ؟ فهذا سؤال له شأن .
فاعلم أن الشر كله يرجع الى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه . مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به ، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه . وحركتها من حيث هي حركة : خير، وإنما تكون شراً بالإضافة ، لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم ، وهو وضع الشيء في غير محله ، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً ، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية . ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها ، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به ، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه ، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك . فلا يكون في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه ، لا مصلحة في خلقه بوجه ما ، هذا من أبين المحال ، فإنه سبحانه الخير كله بيديه ، والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شراً ، فتأمله . فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً .
فإن قيل : لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة ؟ قيل : هو من هذه الجهة ليس بشر ، فإن وجوده هو المنسوب إليه ، وهو من هذه الجهة ليس بشر ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء ، حتى ينسب إلى من بيده الخير .
فإن أردت مزيد إيضاح لذلك ، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد . فإيجاد هذا خير ، وهو الى الله ، وكذلك إعداده وإمداده ، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنما إليه ضده .
فإن قيل : هلا أمده إذا أوجده ؟ قيل : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده ، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده . فإيجاده خير ، والشر وقع من عدم إمداده .
فإن قيل : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فهذا سؤال فاسد ، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ! وهذا عين الجهل ! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت ، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق ، وإلا فليس في الخلق من تفاوت . فإن اعتاص عليك هذا ، ولم تفهمه حق الفهم ، فراجع قول القائل :
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
فإن قيل : كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه ؟ قيل : لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة . وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم . . - الآيتين . فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله ، وهو طاعة ، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه ، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله ، فقال : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ، أي فساداً وشراً ، ولأوضعوا خلالكم ، أي سعوا بينكم بالفساد والشر ، يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ، أي قابلون منهم مستجيبون لهم ، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه . فاجعل هذا المثال أصلاً ، وقس عليه .
وأما الوجه الثاني ، وهو الذي من جهة العبد : فهو أيضا ممكن ، بل واقع . فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها ، من حيث هي فعل العبد ، واقعة بكسبه وإرادته واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئه وإرادته وأمره الكوني ، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه . فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان . وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً ، وقولهم يرجع إلى هذا القول ، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابه ومشيئته . وسر المسألة : أن الذي إلى الرب منها غير مكروه ، والذي إلى العبد مكروه .
فإن قيل : ليس إلى العبد شيء منها . قيل : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق ، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري . وأهل السنة ، المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين .
فإن قيل : كيف يتأتى الندم والتوبه مع شهود الحكمة في التقدير ، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة ؟ قيل : هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على غير ما هو عليه ، فرأى تلك الأفعال طاعات ، لموافقته فيها المشيئة والقدر ، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ! [و] في ذلك قيل :
أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ، ففعلي كله طاعات !
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر ، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية ، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي ، لا موافقة القدر والمشيئة ، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون - كلهم مطيعين ! وهذا غاية الجهل ، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ، ونفوذ الأقدار فيه ، وكمال فقره إلى ربه ، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين : كان بالله في هذه الحال لا بنفسه ، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة ، فإن عليه حصناً حصيناً ، فبي يسمع ، وبي يبصر، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال ، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه ، استولى عليه حكم النفس ، فهنالك نصبت عليه الشباك والإشراك ، وأرسلت عليه الصيادون ، فاذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي ، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة ، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه ، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر ، فبقي بربه لا بنفسه .
فإن قيل : إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله ، فكيف ننكره ونكرهه ؟!
فالجواب : أن يقال أولاً : نحن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدره ، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، بل من المقضي ما يرضى به ، ومنه مايسخط ويمقت ، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه ، بل من القضاء ما يسخط ، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم .
ويقال ثانياً : هنا أمران : قضاء الله ، وهو فعل قائم بذات الله تعالى . ومفضي : وهو المفعول المنفصل عنه . فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ، نرضى به كله . والمقضي قسمان : منه مايرضى به ، ومنه ما لايرضى به .
ويقال ثالثاً : القضاء له وجهان : أحدهما : تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به . والوجه الثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به . مثال ذلك : قتل النفس ، له اعتباران : فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره - يرضى به ، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله - نسخطه ولانرضى به .
وقوله : والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان . آخره - التعمق : هو المبالغة في طلب الشيء . والمعنى : أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان . الذريعة : الوسيلة . والذريعة والدرجة والسلم - متقاربة المعنى ، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقاربة المعنى أيضاً . لكن الخذلان في مقابلة الظفر . والطغيان في مقابلة الإستقامة .
وقوله : فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة . عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ؟ قال : وقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم ، قال : ذلك صريح الإيمان . رواه مسلم ، الإشارة بقوله : ذلك صريح الإيمان إلى تعاظم أن يتكلموا به . و لمسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة ؟ فقال : تلك محض الإيمان . فهو بمعنى حديث أبي هريرة ، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين ، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان . هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان . ثم خلف من بعدهم خلف ، سودوا الأوراق بتلك الوساسوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل سودوا الاوراق بتلك الوساوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل وسودوا القلوب ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم . وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود ابن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر ، قال : فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، قال : فقال لهم : ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟ بهذا هلك من كان قبلكم . قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده ، بما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أني لم أشهده . ورواه ابن ماجه أيضاً . وقال تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ، الخلاق : النصيب ، قال تعالى : وما له في الآخرة من خلاق ، أي استمتعتم بنصيبكم كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم وخضتم كالذي خاضوا ، أي كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا . وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد ، فالأول من جهة الشهوات ، والثاني من جهة الشبهات . وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، قالوا : فارس والروم ؟ قال : فمن الناس إلا أولئك . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني اسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . رواه الترمذي . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تفرقت [اليهود] على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة . رواه أبو داود و ابن ماجه و الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
وعن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة . يعني : الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة .
وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة : مسألة القدر . وقد اتسع الكلام فيها غاية الإتساع .
وقوله : فمن سأل : لم فعل ؟ فقد رد حكم الكتاب ، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين .
اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله - على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع . ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به ، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها ، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها ، بل انقادت وسلمت وأذعنت ، وما عرفت من الحكمه عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته ، ولا جعلت ذلك من شأنها ، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك ، كما في الإنجيل : يا بني اسرائيل لا تقولوا : لم أمر ربنا ؟ ولكن قولوا : بم أمر ربنا ، ولهذا كان سلف هذه الأمة ، التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً - لا تسأل نبيها : لم أمر الله بكذا ؟ ولم نهى عن كذا ؟ ولم قدر كذا ؟ ولم فعل كذا ؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والإستسلام ، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم . فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به ، ثم العزم الجازم على امتثاله ، ثم المسارعة إليه والمبادرة به ، والحذر عن القواطع والموانع ، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ، ثم فعله لكونه مأموراً ، بحيت لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته - فإن ظهرت له فعله وإلا عطله ، فإن هذا ينافي الانقياد ، ويقدح في الإمتثال . قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر : فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه . فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال . ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم ، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره . قال ابن العربي : الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة ، وإيضاح سبل النظرة ، وتحصيل مقدمات الإجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الإستمداد . قال : فإذا عرضت نازلة ، أتيت من بابها ، ونشدت من مظانها ، والله يفتح وجه الصواب فيها . انتهى . وقال صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . رواه الترمذي وغيره . ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب ، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له ، بين له الصواب ليرجع إليه ، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل ، لكمال حكمته ورحمته وعدله ، لا لمجرد قهره وقدرته ، كما يقول جهم وأتباعه . وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ : ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله