قوله : ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ، ليس فيه ناقض ، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ).
 
ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء . فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة [ فكانت كما علم ] . فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها . قال تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير . وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد [حتى يفعلوا] ! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقروا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا . فإن الله [تعالى] يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .
وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير عالم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله ؟ قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع . ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم ، [ بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع .
وإذا قيل : فمن عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم ] ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، [ فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه . وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه ! وهو فرض محال . وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه] ! وهو جمع بين النقيضين .
فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب [عدم] وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً ؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالاً لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه . وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال ! مما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادراً على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدره من أفعال عباده . والله تعالى أعلم