قوله : ( وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والإعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته ، كما قال تعالى في كتابه : وخلق كل شيء فقدره تقديراً . وقال تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً )
 
ش : الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها . قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث : يا عمر أتدري من السائل ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبرائيل ، أتاكم يعلمكم دينكم . رواه مسلم .
وقوله : والإقرار بتوحيد الله وربوبيته ، أي لا يتم التوحيد والإقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى ، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك ، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله ؟ ! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة ، وأحاديثهم في السنن . وروى أبو داود عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم . وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ، ومن مرض منهم فلا تعودوهم ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال . وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم . وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من بني آدم ليس لهم في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية . لكن كل أحاديث القدرية المروعة ضعيفة . وإنما يصح الموقوف منها : فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الايمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به وكتابة مقادير الخلائق . وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ، ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك ، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر . وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة ، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد ، فأخرجوها عن قدرته وخلقه .
والقدر ، الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه ، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع : هو ما قدره الله من مقادير العباد . وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء ، كقول ابن عمر رضي الله عنهما ، لما قيل له : يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف : أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء .
والقدر، الذي هو التقدير المطابق للعلم : يتضمن أصولاً عظيمة : أحدها : أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم ، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم . الثاني : أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها ، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً ، قال تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديراً . فالخلق يتضمن التقدير ، تقدير الشيء في نفسه ، بأن يجعل له قدراً ، وتقديره قبل وجوده . فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته ، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة ، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال : إنه يعلم الكليات دون الجزئيات ! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات . الثالث : أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً ، فيقضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً ، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم ، فإنه كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو ؟! الرابع : أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله ، محدث له بمشيئته وإرادته ، ليس لازما لذاته . الخامس : أنه يدل على حدوث هذا المقدور ، وأنه كان بعد أن لم يكن ، فإنه يقدره ثم يخلقه