قوله . (ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله ، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)
 
ش : أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله : ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، [ما داعموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] ، يشير الشيخ رحمه الله [بهذا الكلام] إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب .
واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الإفتراق ، وتشتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم . فالناس فيه ، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم ، على طرفين ووسط ، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية .
فطائفة تقول : لا نكفر من أهل القبلة أحداً ، فتنفي التكفير نفياً عاماً ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين ، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين . وأيضاً : فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواتره ، والمحرمات الظاهرة المتواترة ، ونحو ذلك ، فإنه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل كافراً مرتداً . والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة ، بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال : إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب ، بل يقال : لا نكفرهم بكل ذنب ، كما تفعله الخوارج . وفرق بين النفي العام ونفي العموم . والواجب إنما هو نفي العموم ، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب . ولهذا - والله أعلم - قيده الشيخ رحمه الله [بقوله] : ما لم يستحله . وفي قوله : ما لم يستحله إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب [من] الذنوب العملية لا العلمية . وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع . إلا أن يضمن قوله : يستحله بمعنى : يعتقده ، أو نحو ذلك .
وقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله . . . إلى آخر كلامه ، رد على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة . فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون نكفر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر ! والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين ! ! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ، لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأولاً ، فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره ، أو يقولون : يكفر كل مبتدع . وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فثان النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه [مثقال] ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك . والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه . وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : وأهل الكبائر في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون . والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً ، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه ، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً ، فلا يقال . إن إيمانه حبط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو : أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به - : يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن [ وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها . وعن أبي يوسف رحمه الله ، أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة ، حتى اتفق رأيي ورأيه : أن من قال بخلق القرآن فهو كافر ] . وأما الشخص المعين ، إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت . ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب : باب النهي عن البغي ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصر ، فوجده يوماً على ذنب ، فقال له : أقصر . فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيباً ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك [الله] الجنة فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده ، لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . وهو حديث حسن . ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له ، [ ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ] ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : إذا مت فاسحقوني ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شك في ذلك . لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن عاقبته في الدنيا ، لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه . ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل : إنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا [ إذا ] صار منافقاً زنديقاً . فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون مناففاً زنديقاً . وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف : صنف : كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين . وصنف : المؤمنون باطناً وظاهراً . وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً . وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة . وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين . فإنه لا يكون إلا زنديقاً ، والزنديق هو المنافق .
وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أسلم مولى عمر [رضي الله عنه]، عن عمر : أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه : عبدالله ، وكان يلقب : حماراً ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب ، فأتى به يوماً ، فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ! ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تلعنه ، [فو الله ما علمت] ، إنه يحب الله ورسوله وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج . ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع منها . ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون .
ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو : أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً ، قال الله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . وقال صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . و : إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر - فقد باء بها أحدهما . متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً ، ومن كانت فيه [خصلة منهن كان فيه] خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد . وقال صلى الله عليه وسلم : بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة . رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهناً فصدقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أنزل على محمد . وقال صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد كفر . رواه الحاكم بهذا اللفظ . وقال صلى الله عليه وسلم : ثنتان في أمتي [بهم] كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت . ونظائر ذلك كثيرة .
والجواب : أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت أن الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال ، ولا يقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر ! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام . ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة . فإن قولهم باطل أيضاً ، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الى أن قال : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف . فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخاً لولي القصاص ، والمراد أخوة الدين بلا ريب . وقال تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، الى أن قال : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل ، بل يقام عليه الحد ، فدل على أنه ليس بمرتد . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم ، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أحذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ، ثم ألقي في النار . أخرجاه في الصحيحين . فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه . وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال ، [فيأتي] وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار . رواه مسلم . وقد قال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات . فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته . وهذا مبسوط في موضعه .
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج . نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقاً ، فالخلاف بينهم لفظي فقط . وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص . لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة ! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة - : تبينت لك فساد القولين ! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى .
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافاً لفظياً ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفراً دون كفر ؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيماناً دون إيمان ؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً - ولا نطلق عليهما اسم الكفر . ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عملي لا اعتقادي ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده . ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازي غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة . وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، إنها سميت إيماناً مجازاً ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً . ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا . فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول وما تواترعنهم أنهم من أهل الوعيد . ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة . ولكن أراد ما في ذلك التعصب على من يضادهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه ! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف ؟! قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى الآية .
وهنا أمر يجب أن يتفطن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفراً : إما مجازياً ، وإما كفراً أصغر ، على القولين المذكورين . وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله - : فهذا كفر أكبر . وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافراً كفراً مجازياً ، أو كفراً أصغر . وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطىء ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور .
وأراد الشيخ رحمه الله بقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله - مخالفة المرجئة . وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين ، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك . فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة ، وتأولوا قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية . فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اتفق هو و علي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على استحلالها قتلوا . وقال عمر لقدامة : أخطأت استك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر . وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية . بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس . ثم إن أولئك الذين فعلوا [ذلك يذمون] على أنهم أخطأوا وأيسوا من التوبة . فكتب عمر إلى قدامة يقول له : حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب . ما أدري أي ذنبيك أعظم ؟ استحلالك المحرم أولاً ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً ؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام