وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي (...) |
وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ فَقَدْ أَسْنَدْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ فِي التَّمْهِيدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ فَمَعْنَاهُ فَالِقُ الصُّبْحِ عَنِ النَّهَارِ كَمَا يُفْلَقُ الْحَبُّ عَنِ النَّوَى عَنِ النَّبَاتِ وَالْفَلْقُ فَلْقُ الصُّبْحِ وَقَوْلُهُ جَاعِلَ اللَّيْلَ سَكَنًا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) يُونُسَ 67 وَقَوْلُهُ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا فَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُمْ قَالُوا يَدُورَانِ فِي حِسَابٍ يَجْرِيَانِ فِيهِ إِلَى غَايَتِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَكَمَثَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الْأَنْبِيَاءِ 33 وَمِثْلِ قَوْلِهِ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) الرَّحْمَنِ 1 قَالَ كَحُسْبَانِ الرَّحَا وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ عَلَيْهِمَا حِسَابٌ وَآجَالٌ كَآجَالِ النَّاسِ فَإِذَا جَاءَ أَجْلُهُمَا هَلَكَا وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ حُسْبَانٌ بِمَعْنَى حِسَابٍ أَيْ جَعَلَهُمَا يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ قَالُوا وَقَدْ يَكُونُ حُسْبَانُ جَمْعُ حِسَابٍ مِثْلَ شِهَابٍ وَشُهْبَانَ وَأَمَّا قوله اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ فَمَعْنَاهُ دُيُونُ النَّاسِ وَيَدْخُلُ مَعَ ذَلِكَ مَا لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ أن يعينه على ذلك كله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ وَهَذَا الْأَظْهَرُ فِيهِ مِنْ دَيْنِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالذِّلَّةِ وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى وَأَمَّا قَوْلُهُ أَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ مَعَ قَوْلِهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ وَلَا تَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فَإِنَّ هَذَا الْفَقْرَ هُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ مَعَهُ الْقُوَّةُ وَالْكَفَافُ وَلَا يَسْتَقِرُّ مَعَهُ فِي النَّفْسِ غِنًى لِأَنَّ الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس ثبت عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرْضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) غَنِيًّا وَعَدَّدَهُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَّدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ فَقَالَ (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فأغنى) الضحى 8 ولم يكن غناه صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ إِيجَادِ قُوتِ سَنَةٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَكَانَ الْغِنَى كُلُّهُ فِي قَلْبِهِ ثِقَةً بِرَبِّهِ وَسُكُونًا إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ يَأْتِيهِ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا يَكْثُرُ هَمُّكَ مَا يُقَدَّرُ يَكُنْ وَمَا يُقَدَّرُ يَأْتِيكَ وَقَالَ إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي فَقَالَ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقَوْا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرَّمَ فَغِنَى النَّفْسِ يُعِينُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ وَغِنَى الْمُؤْمِنِ الْكِفَايَةُ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِمْ إِلَّا الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ وَقَالَ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ إِذَا كَانَ مَا يَكْفِيكَ لَا يُغْنِيكَ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُغْنِيكَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ فَقْرٍ مُسْرِفٍ وَغِنًى مُطْغٍ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ أَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ طَرَفَانِ وَغَايَتَانِ مَذْمُومَتَانِ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَتَّسِعُ جِدًّا وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ وَرُبَّمَا كَانَ فِي ظَوَاهِرَ أَكْثَرُهَا تَعَارُضٌ وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ تَتَقَارَبُ مَعَانِيهَا وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَبِمَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي تَفْضِيلِ الْغِنَى وَحَمْدِ الْفَقْرِ فِي كِتَابِ بَيَانِ الْعَلَمِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ حَاكِيًا عَنْ موسى صلى الله عليه وسلم (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) الْقَصَصِ 24 تَفْضِيلُ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ يَفْتَقِرُونَ إِلَى رَحْمَتِهِ وَلَا غِنًى لَهُمْ عَنْ رِزْقِهِ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْكِفَايَةَ فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ مِنْهُ الْعِنَايَةُ وَمَنْ أَتَاهُ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ سِعَةً فَوَاجِبٌ شُكْرُهُ عَلَيْهِ وَحَمْدُهُ كَمَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَى مَنِ امْتُحِنَ بِالْقِلَّةِ وَالْفَقْرِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَحُقُوقَ الْمَالِ وَنَوَافِلَ الْخَيْرِ تَتَوَجَّهُ إِلَى ذِي الْغِنَى وَمُؤْنَةُ ذَلِكَ سَاقِطَةٌ عَنِ الْفَقِيرِ وَالْقِيَامُ بِهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ وَالصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ وَالرِّضَا بِهِ ثَوَابٌ جَسِيمٌ قال الله (عز وجل) (إنما يوفى الصبرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزُّمُرِ 10 وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا فَالزِّيَادَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى الْقُوتِ وَالْكِفَايَةِ ذَمِيمَةٌ وَلَا تُؤْمَنُ فِتْنَتُهَا وَالتَّقْصِيرُ عَنِ الكفاف محنة وبلية لا يا من صَاحِبُهَا فِتْنَتَهَا أَيْضًا وَلَا سِيَّمَا صَاحِبُ الْعَيَّالِ وروي عن بن عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ فَقَالَ جَهْدُ الْبَلَاءِ كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعِظَامِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 عَبْدِهِ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَنِعَمُ اللَّهِ وَاجِبٌ اسْتَدَامَتُهَا بِالشُّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُعَارِضُ هَذَا ظَاهِرُهُ وَلَيْسَ بِمُعَارِضٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْ عَبْدِي فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَهَذَا مِنَ الْعَزَاءِ وَالْحَضِّ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ لَأَنْ أُعَافَى وَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى وَأَصْبِرَ وَفِي الِاقْتِنَاعِ بِالصَّبْرِ قُوَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْهَا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَمَا لَا يُحْصَى لِمَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى وَفِي السَّمْعِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ التَّنَعُّمِ بِسَمَاعِ الذِّكْرِ وَسَمَاعِ مَا يُسِّرُ وَقَوْلُهُ وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ فَإِنَّهُ يُرْوَى وَقَوِّنِي فِي سَبِيلِكَ وَيُرْوَى وَقُوَّتِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمَعْنَاهُ الْقُوَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ وَالشُّكْرُ لِنِعْمَتِكَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرا ما يسأل الله العافية والمعافة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْغِنَى عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَافِيَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَالدُّعَاءُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وسئلوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) النِّسَاءِ 32 |