قوله : ( وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ، وإن لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين . وهم في مشيئته وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، كما ذكر عز وجل في كتابه : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن شاء عذبهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم إلى جنته . وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته ، الذين خابوا من هدايته ، ولم ينالوا من ولايته . اللهم يا ولي الإسلام وأهله ، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به )
 
ش : فقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون - رد لقول الخوارج والمعتزلة ، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار . لكن الخوارج تقول بتكفيرهم ، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان ، لا بدخولهم في الكفر ، بل لهم منزلة بين منزلتين ، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله : ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله .
وقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد - تخصيصه أمة محمد ، يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به ، [ حكمهم ] مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد . وفي ذاك نظر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . ولم يخص أمته بذلك ، بل ذكر الإيمان مطلقاً ، فتأمله . وليس في بعض النسخ ذكر الأمة . وقوله : في النار- معمول لقوله : لا يخلدون . وإنما قدمه لأجل السجعة ، لا أن يكون [ في النار ] خبر لقوله : وأهل الكبائر ، كما ظنه بعض الشارحين .
واختلف العلماء في الكبائر على أقوال ، فقيل : سبعة ، وقيل : سبعة عشر . وقيل : ما اتفقت الشرائع على تحريمه . وقيل : ما يسد باب المعرفة بالله . وقيل : ذهاب الأموال والأبدان . وقيل : سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها . وقيل : لا تعلم أصلاً . أو : أنها أخفيت كليلة القدر . وقيل : إنها إلى السبعين أقرب . وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقيل : إنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة ، أو الغضب . وهذا أمثل الأقوال . واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر : منهم من قال : الصغيرة ما دون الحدين : حد الدنيا وحد الآخرة . ومنهم من قال : كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار. ومنهم من قال : الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ، والمراد بالوعيد : الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب ، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا ، أعني المقدرة ، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب . وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة ، كالشرك ، والقتل ، والزنا ، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، ونحو ذلك ، كالفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور، وأمثال ذلك .
وترجيح هذا القول من وجوه : أحدها : أنه هو المأثور عن السلف ، كابن عباس ، و ابن عيينة ، و ابن حنبل رضي الله عنهم ، وغيرهم . الثاني : أن الله تعالى قال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً . فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره ، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر . الثالث : أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب ، فهو حد متلقى من خطاب الشارع . الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال ، فإن من قال : سبعة ، أو سبعة عشرة ، أو الى السبعين أقرب - : مجرد دعوى . ومن قال : ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه - : يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف ، والتزوج ببعض المحارم ، والمحرم بالرضاعة والصهرية ، ونحو ذلك - ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم ، والسرقة لها ، والكذبة الواحدة الخفيفة ، ونحو ذلك - : من الكبائر! وهذا فاسد . ومن قال : ما سد باب المعرفة بالله ، أو ذهاب الأموال والأبدان - : يقتضي أن شرب الخمر ، وأكل الخنزير والميتة والدم ، وقذف المحصنات - ليس من الكبائر! وهذا فاسد . ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها ، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة - : يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد ، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال : إنها لا تعلم أصلاً ، أو إنها مبهمة - : فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره . والله أعلم .
وقوله : وإن لم يكونوا تائبين - لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب ، وإنما الخلاف في غير التائب . وقوله : بعد أن لقوا الله تعالى عارفين - لو قال : مؤمنين ، بدل قوله : عارفين ، كان أولى ، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر . وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل ، كما تقدم . فإن إبليس عارف بربه ، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين . وكذلك فرعون وأكثر الكافرين . قال تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى . وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للإهتداء ، التي يشير اليها أهل الطريقة ، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم .
وقوله : وهم في مشيئة الله وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، إلى آخر كلامه - فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة ، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع ، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى . ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به ، غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم .
فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله [ قبل التوبة ] .
وقوله : ذلك أن الله مولى أهل معرفته - فيه مؤاخذة لطيفة ، كما تقدم . وقوله : اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكناً بالإسلام ، وفي نسخة : ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به - روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا ولي الإسلام وأهله ، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه . ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة . وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه ، حيث قال : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين . وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه ، حيث قالوا : ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين . ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه ، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام ، لا بمطلق الموت ، ولا بالموت الآن ، والفرق ظاهر