ذِكَرَ فِيهِ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَبِرَ حَتَّى كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ فَكَانَ يَفْتَدِي قَالَ مَالِكٌ وَلَا أَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ فَمَنْ فَدَى فَإِنَّمَا يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ (...) |
ذِكَرَ فِيهِ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَبِرَ حَتَّى كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الصِّيَامِ فَكَانَ يَفْتَدِي قَالَ مَالِكٌ وَلَا أَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ فَمَنْ فَدَى فَإِنَّمَا يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 قَالَ أَبُو عُمَرَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ كَبِرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حَتَّى كَانَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ أَوْ عَامَيْنِ فَكَانَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ قَالَ كَانَ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو عُمَرَ اخْتُلِفَ عَنْ أَنَسٍ فِي صِفَةِ إِطْعَامِهِ فَرُوِيَ عَنْهُ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَرُوِيَ عَنْهُ نِصْفُ صَاعٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْهُ كَانَ يَجْمَعُهُمْ فيطعمهم فربما جمع ثلاث مائة مِسْكِينٍ فَأَطْعَمَهُمْ وَجْبَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ وَكَانَ يَصْنَعُ لَهُمُ الْجِفَانَ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ قَالَ أَبُو عُمَرَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ اللَّذَيْنِ لَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ الْإِفْطَارَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ مَالِكٌ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِي مُوَطَّئِهِ وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ قَالَ رَبِيعَةُ فِي الْكَبِيرِ وَالْمُسْتَعْطِشِ إِذَا أَفْطَرَا إِنَّمَا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا قَالَ أَشْهَبُ وَقَالَ لِي مَالِكٌ مِثْلَهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الْبَقَرَةِ 183 184 قَالَ كَانَ مَنْ أَطَاقَ الصِّيَامَ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الْبَقَرَةِ 185 فَثَبَتَ الْفِدْيَةَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ أَنْ يُطْعِمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ يَتَصَدَّقُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ قُلْتُهُ خَبَرًا عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يُطِقِ الْحَجَّ أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ عَمَلُ غَيْرِهِ عَمَلُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا لَيْسَ الْكَفَّارَةُ كَعَمَلِهِ قَالَ وَالْحَالُ الَّتِي يَتْرُكُ فِيهَا الْكَبِيرُ الصَّوْمَ يُجْهِدُهُ الْجَهْدُ غَيْرُ الْمُحْتَمَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ أَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عُمَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) إِلَى قَوْلِهِ (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الْبَقَرَةِ 183 184 قَوْلُهُ تَعَالَى (يُطِيقُونَهُ) هُوَ الثَّابِتُ بَيْنَ لَوَحْيِ الْمُصْحَفِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يُقْطَعُ بِصِحَّتِهَا وَيَقْطَعُ الْفَرْدُ بِمَجِيئِهَا وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ بِتَأْوِيلِهَا قَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ قَالُوا كَانَ الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ الْمُطِيقُ لِلصِّيَامِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيِنًا وَإِنْ شَاءَ صَامَ مِنْهُ مَا شَاءَ وَأَطْعَمَ عَمَّا شَاءَ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أخر) الْبَقَرَةِ 184 فَنَسَخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَاخْتَلَفُوا مَعَ هَذَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) الْبَقَرَةِ 184 فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مُدًّا أَوْ نِصْفَ صَاعٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُطْعِمُ مِسْكِينًا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) الْبَقَرَةِ 184 أَنْ يَصُومَ مَعَ الْفِدْيَةِ قَالَ وَالصَّوْمُ مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ له من ذلك وكل هؤلاء يقولوا الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الْبَقَرَةِ 185 وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَيُّوبُ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ محمد بن سيرين عن بن عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ يَزِيدُ النَّحْوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ بن عباس ورواه بن جريج وعثمان بن عطاء الخرساني عن عطاء عن بن عباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وَهُوَ قَوْلُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمْ يُخْتَلَفْ عنه فيه وقول علقمة وعبيدة وبن سيرين والشعبي وبن شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مُفْتَرِقُونَ فِرْقَتَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَنْسُوخَةٌ جُمْلَةً فِي الشَّيْخِ وَفِي غَيْرِهِ وَمِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّاسَ لَا يَخْلُونَ مِنْ إِقَامَةٍ أَوْ سَفَرٍ وَمِنْ صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ فَالصَّحِيحُ الْمُقِيمُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا وَاجِبًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَإِقَامَتِهِ بِبَلَدِهِ وَالْمُسَافِرُ يُخَيَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَا فِدْيَةَ وَالْمَرِيضُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يرجى برؤه وصحته فهذا إِنْ صَحَّ قَضَى مَا عَلَيْهِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِنْ لَمْ يُطْمَعْ لَهُ بِصِحَّةٍ وَلَا قُوَّةٍ كَالشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ اللَّذَيْنِ قَدِ انْقَطَعَتْ قوتهما ولا يطمعان أن يثوبا إليهما حال يمكنها مِنَ الْقَضَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ فِدْيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَكْحُولٍ الدِّمَشْقِيُّ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثور وَرِوَايَةٌ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَسْتَحِبُّ للشيخ الذي لا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِدْيَةِ بِالطَّعَامِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا لِمِسْكِينٍ مِنْ قُوتِهِ وَلَا يَرَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَذَهَبَتِ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى تَقْرَأُ (يُطِيقُونَهُ) وَتَرَى الْآيَةَ مَنْسُوخَةً إِلَّا أَنَّ النَّسْخَ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ وَهِيَ مَحْكَمَةٌ عِنْدَ بعضهم فقالوا كل من طاف الصَّوْمَ فَلَا مَشَقَّةَ تَضُرُّ بِهِ فَالصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُطِقِ الصَّوْمَ إِلَّا بِجَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ مُضِرَّةٍ بِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ لِقَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الْبَقَرَةِ 185 قَالُوا وَذَلِكَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الصِّيَامَ إِلَّا بِجَهْدٍ ومشقة خوفا على الولد ذهب إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَنَسُ بن مالك وبن عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَشُرَيْحٌ كَانَ يُطْعِمُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَصُومُ كَفِعْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو الزِّنَادِ وبن شِهَابٍ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (يُطِيقُونَهُ) لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ غَيْرُ مُتَنَاقِضَتَيْنِ وَهَذَا شَأْنُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ يَخْتَلِفُ سَمَاعُهَا وَيَتَّفِقُ مَفْهُومُهَا فَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (يُطِيقُونَهُ) يَعْنِي بِمَشَقَّةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى يُطَوَّقُونَهُ أَيْ يَتَكَلَّفُونَهُ ولا يطيقونه إلا بمشقة وعن بن شِهَابٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَصَحُّ وَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَرَى الْآيَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ خَاصَّةً وَقَرَأَهَا مَنْسُوخَةً كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قَالَ الْقَضَاءُ بَاقٍ وَنُسِخَ الْخِيَارُ قَالَ أَبُو عمر قول بن شِهَابٍ هَذَا كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ ظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) يُرِيدُ يُطِيقُونَهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَضُرُّ بِهِمْ (فَدِيَةٌ طَعَامُ) قَالَ لَوْ أَفْطَرَ هَؤُلَاءِ فِي الْآيَةِ الْمُحْكَمَةِ أُلْزِمُوا الْفِدْيَةَ بَدَلًا مِنَ الصَّوْمِ كَمَا أُلْزِمَ مَنْ لَا يُطِيقُ الْحَجَّ بِبَدَنِهِ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ بِمَالِهِ وَكَمَا أَلْزَمَ الْجَمِيعُ الْجَانِيَ عَلَى عُضْوٍ مُخَوِّفٍ الدِّيَةَ بَدَلًا مِنَ الْقِصَاصِ فِي قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الْمَائِدَةِ 45 قَالَ أَبُو عُمَرَ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ يَطُولُ وَقَدْ أَكْثَرُوا فِيهَا وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى مَنْ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبِ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ فَرْضًا إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَهُ وَالْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَالْأَعْمَى الْعَاجِزِ عَنِ النَّظَرِ لَا يُكَلِّفُهُ وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِكِتَابٍ مُجْتَمَعٍ عَلَى تَأْوِيلِهِ وَلَا سُنَّةٍ يَفْقَهُهَا مَنْ تَجِبُ الْحُجَّةُ بِفِقْهِهِ وَلَا إِجْمَاعٍ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ مَنْ بَعْدَهُمْ وَالْفَرَائِضُ لَا تَجِبُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَالذِّمَّةُ بَرِيئَةٌ قَالُوا أَحَبُّ أَنْ لَا يُوجَبَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا تَنَازُعَ فِيهِ وَالِاخْتِلَافُ عَنِ السَّلَفِ فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ موجود والروايات في ذلك عن بن عباس مختلفة وحديث علي أن لَا يَصِحُّ عَنْهُ وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ تَبَرُّعًا وَتَطَوُّعًا وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُ فِي ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وأما الذين كانوا يقرؤون (عَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) فَهَذِهِ القراءة رويت عن بن عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ وَعَنْ عَائِشَةَ كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَكُلُّهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَحْكَمَةٌ فِي الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الَّذِينَ يُكَلَّفُونَ الصِّيَامَ وَلَا يُطِيقُونَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَعْنَى (يُطِيقُونَهُ) عِنْدَ جَمِيعِهِمْ يُكَلَّفُونَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُكَلَّفُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ إِلَّا بِجَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ مُضِرَّةٍ فَهَؤُلَاءِ جُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ وَهَذَا الْقَوْلُ نَحْوُ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْمُصْحَفِ (يُطِيقُونَهُ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُكَلَّفُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ عَلَى حَالِ النِّيَّةِ فَأُلْزَمُوا الْفِدْيَةَ بَدَلًا مِنَ الصَّوْمِ وَذَكَرُوا نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحُجَّةِ وَمُعَارَضَاتٍ لَمْ أَرَ لَذِكْرِهَا وَجْهًا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يُقْطَعُ بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا مَجْرَاهَا مَجْرَى أَخْبَارِ الْآحَادِ الْعُدُولِ فِي الْأَحْكَامِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى مَا عَنْهُ سَكَتْنَا وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا وَأَمَّا حَدِيثُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْبَابِ |