قوله : ( وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه ، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم . والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران )
 
ش : قال تعالى : وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وقال تعالى : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون * يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون * وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون . وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ ، وهو أظهر ، لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا ، أو المراد أعم من ذلك . وعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، كأن على رؤوسنا الطير ، وهو يلحد له ، فقال : أعوذ بالله من عذاب القبر ، ثلاث مرات ، ثم قال : إن العبد [المؤمن] إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، نزلت إليه الملائكة ، كأن على وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، فجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس الطيبة ، اخرجي الى مغفرة من الله ورضوان ، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون بها ، يعني على ملأ من الملائكة ، إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها ، إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : ما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره ، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : يا رب ، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين ، في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً ، ثم قرأ : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه ، هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ، فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فافرشوه من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسؤوك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ، فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول رب لا تقم الساعة . رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وروى النسائي و ابن ماجة أوله ورواه الحاكم و أبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما ، و ابن حبان .
وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث ، وله شواهد من الصحيح . فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، إنه ليسمع قرع نعالهم ، فيأتيه ملكان ، قيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقول له : انظر الى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة ، فيراهما جميعا . قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره ، وذكر الحديث . وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، فدعا بجريدة رطبة ، فشقها نصفين ، وقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا . وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما المنكر ، وللآخر : النكير ، وذكر الحديث إلخ . .
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا تتكلم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته ، لكونه لا عهد له به في هذا الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول . فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا ، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا . فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق ، متغايرة الأحكام : أحدها : تعلقها به في بطن الأم جنيناً . الثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض . الثالث : تعلقها به في حال النوم ، فلها به تعلق من وجه ، ومفارقة من وجه . الرابع : تعلقها به في البرزخ ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة ، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه . وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة . الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد ، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن ، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه ، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً ، فالنوم أخو الموت . فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة .
وليس السؤال في القبر للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح ! والأحاديث الصحيحة ترد القولين . وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً ، باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به .
واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه ، [قبر أو لم يقبر] ، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء ، أو صلب أو غرق في البحر- وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك - فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من [غير] غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله . بل سوء الفهم عن الله وروسله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد . والله المستعان .
فالحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار . وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس ، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم - صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً . فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل ، ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل ، وأنه حق لا مرية فيه ، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم . ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ، ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها ، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا ، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها . بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه ، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة ، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره ، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه . وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب ، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما . وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير. وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيبه عن غيره ، ولو اطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ، ولما تدافن الناس ، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع . ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته .
وللناس في سؤال منكر ونكير : هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال : الثالث التوقف ، وهو قول جماعة، منهم أبو عمر بن عبد البر ، فقال : وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها - منهم من يرويه تسأل ، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك ، وهذا أمر لا يقطع به ، ويظهر عدم الاختصاص ، والله أعلم . وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضاً : وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع ؟ جوابه أنه نوعان : منه ما هو دائم ، كما قال تعالى : النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر : ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة ، رواه الإمام أحمد في بعض طرقه . والنوع الثاني : أنه مدة ثم ينقطع ، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم ، فيعذب بحسب جرمه ، ثم يخفف عنه ، كما تقدم ذكره [في] الممحصات العشرة .
وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة : فقيل : أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار ، وقيل : إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها . وقيل : على أفنية قبورهم . وقال مالك : بلغني أن الروح مرسلة ، تذهب حيث شاءت . وقالت طائفة : بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ، ولم يزيدوا على ذلك . وقيل : إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق ، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت ! وقال كعب : أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة ، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس ! وقيل : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكافرين ببئر برهوت . وقيل : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفار عن شماله . قال ابن حزم وغيره : مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها . وقال أبو عمر بن عبد البر : أرواح الشهداء في الجنة ، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم . وعن ابن شهاب أنه قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش ، تغدو وتروح إلى رياض الجنة ، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه . وقالت فرقة : مستقرها العدم المحض . وهذا قول من يقول : إن النفس عرض من أعراض البدن ، كحياته وإدراكه ! وقولهم مخالف للكتاب والسنة . وقالت فرقة : مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها ، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح ! وهذا قول التناسخية منكري المعاد ، وهو قول خارج عن أهل الاسلام كلهم . ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها .
ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت ، فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم . ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه . كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله : مالي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : الجنة ، فلما ولى ، قال : إلا الدين ، سارني به جبرائيل آنفا . ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة ، كما في الحديث [الذي] قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة ومنهم من يكون محبوساً في قبره ، ومنهم من يكون في الارض ، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السنة ، والله أعلم . وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - [ فهي ] : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر . كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم ، يعني يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش ، الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم . فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها ، تكون فيها إلى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها . ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير . وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه [الله] الى جسده يوم يبعثه . فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : هي في جوف طير خضر ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الإعتبار ، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم . وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في السنن . وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم . وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول