قوله : ( وأفعال العباد [هي] خلق الله وكسب من العباد )
 
ش : اختلف الناس في أفعال العباد الإختيارية . فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي : أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى ، وهي كلها اضطرارية ، كحركات المرتعش ، والعروق النابضة ، وحركات الأشجار ، وإضافتها إلى الخلق مجاز ! وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله ! وقابلتهم المعتزلة ، فقالوا : إن جميع الأفعال الإختيارية من جميع الحيوانات بخلقها ، لا تعلق لها بخلق الله تعالى . واختلفوا فيما بينهم : أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا ؟!
وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة ، وهي مخلوقة لله تعالى ، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات ، لا خالق لها سواه . فالجبرية غلوا في إثبات القدر ، فنفوا صنع العبد [ أصلاً ] ، كما عملت المشبهة في إثبات الصفات ، فشبهوا . والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى . ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة ، بل أردأ من المجوس ، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين ، وهم أثبتوا خالقين ! ! وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . فكل دليل صحيح يقيمه الجبري ، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار ، وأن حركاته الإختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار . وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأنه مريد له مختار له حقيقة ، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق ، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته . فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى - فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة ، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والافعال ، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم .
وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، فإن أدلة الحق لا تتعارض ، والحق يصدق بعضه بعضاً . ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين ، ولكنها تتكافأ وتتساقط ، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر . ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين ، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل :
فما استدلت به الجبرية ، قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . فنفى الله عن نبيه الرمي ، وأثبته لنفسه سبحانه ، فدل على أنه لا صنع للعبد . قالوا : والجزاء غير مرتب على الأعمال ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل .
ومما استدل به القدرية ، قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين . قالوا : والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض ، كما قال تعالى : جزاء بما كانوا يعملون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . ونحو ذلك .
فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى - فهو دليل عليهم ، لأنه تعالى أثبت لرسوله [صلى الله عليه وسلم] رمياً ، بقوله : إذ رميت ، فعلم أن المثبت غير المنفي ، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف ، وانتهاؤه الإصابة ، وكل منهما يسمى رمياً ، فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب . وإلا فطرد قولهم : وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى ! وما صمت إذ صمت ! وما زنيت إذ زنيت ! وما سرقت إذ سرقت ! ! وفساد هذا ظاهر .
وأما ترتب الجزاء على الأعمال ، فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية ، وهدى الله أهل السنة ، وله الحمد والمنة . فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات ، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحد بعمله - باء العوض ، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة ، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله ! بل ذلك برحمة الله وفضله . والباء التي في قوله تعالى : جزاء بما كانوا يعملون وغيرها ، باء السبب ، أي بسبب عملكم ، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات ، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته .
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين - فمعنى الآية : أحسن المصورين المقدرين . و الخلق يذكر ويراد به التقدير ، وهو المراد هنا ، بدليل قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، أي الله خالق كل شيء مخلوق ، فخدلت أفعال العباد في عموم : كل . وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم : كل ، الذي هو صفة من صفاته ، يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً ! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم : كل ! ! وهل يدخل في عموم : كل إلا ما هو مخلوق ؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم ، ودخل سائر المخلوقات في عمومها . وكذا قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون . ولا نقول إن : ما مصدرية ، أي خلقكم وعملكم - إذ سياق الآية يأباه ، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت ، لا النحت ، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى ، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم ، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى ، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له ، بل الخشب أو الحجر لا غير . وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة : أن العلم بأن العبد يحدث فعله - ضروري . وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عنده عدمه - ضروري ، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة -غير مسلم ، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري ، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق . فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها . فقوله : فألهمها فجورها وتقواها - إثبات للقدر بقوله : فألهمها ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه ، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية . وقوله بعد ذلك : قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها - إثبات أيضاً لفعل العبد . ونظائر ذلك كثيرة .
وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم ، بل مزقتهم كل ممزق ، وهي : أنهم قالوا ؟ كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم ؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم ؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس ، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدت باب السؤال . وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل ! جعلت الثواب [ والعقاب ] عليه . وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين ! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه ! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف .
والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقاً لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها . فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً . يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ يقال : هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة اليه ، كما قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها . فإن لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين . وقال إبليس : فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين . وقال الله عز وجل : هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان . وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص . وهي محض العدل .
فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس إلى الله سبحانه ، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح : لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة ، حين يقول الله له : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك . وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه - عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص . فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الاخلاص .
فإن قلت : إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً ، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض ؟ قيل : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه ، فهذا قد يقال : إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير ، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات ، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل . فلله فيه عقوبتان : إحداهما : جعله مذنباً خاطئاً ، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله ، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها ، لموافقتها شهوته وإرادته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات . والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات . وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء .
فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فهذه العقوبة الثانية .
فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده - من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له ؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها ؟ قيل : لا ، بل هو محض منته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه .
فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال ؟ وكان منعهم منه ظلماً ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؟ قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً ، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه . وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالماً بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل . وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هوالمحسن المنان بعطائه .
فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه ؟ قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة - ليس بظلم ، بل هو محض العدل . وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل ؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً ، قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محال ذلك ، استدل بما علمه على ما لم يعلمه . ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ قال تعالى مجيباً لهم : أليس الله بأعلم بالشاكرين . فتأمل هذا الجواب ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته .
فإن قيل : إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد ، فإذا لا فعل للعبد أصلاً ؟ قيل : العبد فاعل لفعله حقيقة ، [ وله قدرة حقيقة ] . قال تعالى : وما تفعلوا من خير يعلمه الله . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، وأمثال ذلك . وإذا ثبت كون العبد فاعلاً ، فأفعاله نوعان : نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته ، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً ، كحركات المرتعش . ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره ، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد ، كالحركات الإختيارية . والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً ، وهو الذي يقدرعلى ذلك وحده لا شريك له . ولهذا أنكر السلف الجبر ، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز ، فلا يكون إلا مع الإكراه ، يقال : للأب [ ولاية ] إجبار البكر الصغيرة على النكاح ، وليس له إجبار الثيب البالغ ، أي : ليس له أن يزوجها مكرهة . والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار ، لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد ، قادر على أن يجعله مختاراً بخلاف غيره . ولهذا جاء في ألفاظ الشارع . الجبل دون الجبر ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القبس : إن فيك لخلتين يحبهما الله : الحلم والأناة فقال : أخلقين تخلقت بهما ؟ أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقان جبلت عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى . والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الإختياري . والفرق بين العقاب على الفعل الإختياري وغير الإختياري مستقر في الفطر والعقول .
وإذا قيل : خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم ؟! كان بمنزلة أن يقال . خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم ! ! فكما أن هذا سبب للموت ، فهذا سبب للعقوبة ، ولا ظلم فيهما .
فالحاصل : أن فعل العبد فعل له حقيقة ، ولكنه مخلوق لله تعالى ، ومفعول لله تعالى ، ليس هو نفس فعل الله . ففرق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق . وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله : وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد - أثبت للعباد فعلاً وكسباً ، وأضاف الخلق لله تعالى . والكسب : هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفغ أو ضرر، كما قال تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

الموضوع التالي


قوله : ( ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ماكلفهم . وهو تفسير لا حول ولا قوة الا بالله ، نقول : لا حيلة لأحد ، [ ولا تحول لأحد ] ، ولا حركة لأحد عن معصية الله ، الا بمعونة الله ، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله ، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره . غلبت مشيئته المشيئات كلها ، [ وعكست إرادته الإرادات كلها ] ، وغلب قضاؤه الحيل كلها . يفعل ما في يشاء ، وهو غير ظالم أبداً . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (.