]قوله] : ( والله تعالى يستجيب الدعوات ، ويقضي الحاجات ).
 
ش : قال تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم . وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم - : أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار ، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً . وإجابة الله لدعاء العبد ، مسلماً كان أو كافراً ، وإعطاؤه سؤله - : من جنس رزقه لهم ، ونصره لهم . وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً ، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه ، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك . وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه . وقد نظم بعضهم هذا المعنى ، فقال :
الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
قال ابن عقيل : قد ندب الله تعالى إلى الدعاء ، وفي ذلك معان : أحدها : الوجود ، فإن ليس بموجود لا يدعى . الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى . الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى . الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى . الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى . السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى . ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي ! ولا النجم يقال له : أصلح مزاجي ! ! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع .
وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة [ الى ] أن الدعاء لا فائدة فيه ! قالوا : لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء ! ! وقد يخص بعضهم بذلك خواصن العارفين ! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص ! ! وهذا من غلطات بعض الشيوخ . فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام - فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية ، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت عليه تجارب الأمم ، حتى إن الفلاسفة تقول : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات ! ! هذا وهم مشركون .
وجواب الشبهة بمنع المقدمتين : فإن قولهم عن المشيئة الإلهية : إما أن تقتضيه أولا - [فـ] ثم قسم ثالث ، وهو : أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه ، وقد يكون الدعاء من شرطه ، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ، ولا توجبه مع عدمه ، وكما توجب الشبع والري عند الأكل واثرب ، ولا توجبه مع عدمهما ، وحصول الولد بالوطء ، والزرع بالبذر. فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء ، كما [لا] يقال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب . فقول هؤلاء - كما أنه مخالف للشرع ، فهو مخالف للحس والفطرة .
ومما ينبغي أن يعلم ، ما قاله طائفة من العلماء ، وهو : أن الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ! ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب كالكلية قدح في الشرع . ومعنى التوكل والرجاء ، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع .
وبيان ذلك : أن الإلتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والإستناد إليه . وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس بمستقل ، ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله ، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر .
وقولهم : إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ؟ قلنا : بل قد تكون إليه حاجة ، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة . وكذلك قولهم : وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه ؟ قلنا : بل فيه فوائد عظيمة ، من جلب منافع ، ودفع مضار ، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ما يعجل للعبد ، من معرفته بربه ، وإقراره به ، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه ، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية ، التي هي من أعظم المطالب . فإن قيل : إذا كان إعطاء الله معللاً بفعل العبد ، كما يفعل من إعطاء المسؤول للسائل ، كان السائل قد أثر في المسؤول حتى أعطاه ؟ ! قلنا : الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه ، فهذا الخير منه ، وتمامه عليه . كما قال عمر رضي الله عنه : إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . وعلى هذا قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون . فأخبر سبحانه أنه يبتدىء بتدبير [ الأمر ] ، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه ، كما في العمل والثواب ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، [ وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ] ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه ، فما أثر فيه شيء من المخلوقات ، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير ، أحد أئمة التابعين : نظرت في هذا الأمر ، فوجدت مبدأه من الله ، وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدعاء .
وهنا سؤال معروف ، وهو : أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئاً ، أو يعطى غير ما سأل ؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ، فيها ثلاثة أجوبة محققة - :
أحدها : أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً ، وإنما تضمنت إجابه الداعي ، والداعي أعم من السائل ، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ . ففرق بين الداعي والسائل ، وبين الإجابة والإعطاء ، وهو فرق بين العموم والخصوص ، كما أتبع ذلك بالمستغفر ، وهو نوع من السائل ، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص . وإذا علم العباد أنه قريب ، يجيب دعوة الداعي ، علموا قربه منهم ، وتمكنهم من سؤاله - : وعلموا علمه ورحمته وقدرته ، فدعوه دعاء العبادة في حال ، ودعاء المسألة في حال ، [ وجمعوا بينهما في حال ] ، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والإستعانة ، وقد فسر قوله . وقال ربكم ادعوني أستجب لكم - بالدعاء ، الذي هو العبادة ، والدعاء الذي هو الطلب . وقوله بعد ذلك : إن الذين يستكبرون عن عبادتي - يؤيد المعنى الأول .
الجواب الثاني : أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين السؤال ، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال . إما أن يعجل له دعوته ، أو يدخر له من الخير مثلها ، أو يصرف عنه من الشر مثلها ، قالوا : يا رسول الله ، إذاً نكثر ، قال : الله أكثر . فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلاً ، أو مثله من الخير مؤجلاً ، أو يصرف عنه من السوء مثله .
الجواب الثالث : أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب ، والسبب له شروط وموانع ، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب ، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب ، بل قد يحصل غيره . وهكذا سائر الكلمات الطيبات ، من الأذكار المأثورة المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار ، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل ، تختلف باختلاف قوته وما يعنيها ، وقد يعارضها مانع من الموانع . ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر- : من هذا الباب . وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة ، أو صادف وقت إجابة ، ونحو ذلك - فأجيبت دعوته ، فيظن أن السر في ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن أخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ، وكان غالطاً . وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر ، فيجاب ، فيظن أن السر للقبر ، ولم يدر أن السر للإضطرار وصدق اللجء إلى الله تعالى ، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى . فالأدعية والتعوذات والرقي بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه ، لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً والساعد ساعداً قوياً ، والمحل قابلاً ، والمانع مفقوداً - : حصلت به النكاية في العدو ، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير . فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثم مانع من الإجابة - : لم يحصل الأثر