قوله : ( ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم )
 
ش : فالمعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة ، و [ كذلك الكرامة ] في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين . ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما ، فيجعلون المعجزة للنبي ، والكرامة للولي . وجماعها : الأمر الخارق للعادة . فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة : العلم ، والقدرة ، والغنى . وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده ، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً ، وهو على كل شيء قدير ، وهو غني عن العالمين . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وكذلك قال نوح عليه السلام ، فهذا أول أولي العزم ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، وهذا خاتم الرسل ، وخاتم أولي العزم ، وكلاهما تبرأ من ذلك ، وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب ، كقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، وتارة بالتأثير ، كقوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً الآيات ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية ، كقوله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآية . فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك ، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله ، فيعلم ما علمه الله [ إياه ] ، ويستغني عما أغناه عنه ، ويقدر على ما أقدر عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة ، أو لعادة أغلب الناس . فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الانواع .
ثم الخارق : إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين ، كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً ، إما واجب أو مستحب ، وإن حصل به أمر مباح ، كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً ، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه ، كان سبباً للعذاب أو البغض ، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها : بلعام بن باعورا ، لاجتهاد أوتقليد ، أو نقص عقل أوعلم ، أو غلبة حال ، أو عجز أو ضرورة .
فالخارق ثلاثة أنواع : محمود في الدين ، ومذموم ، ومباح . فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة ، وإلا فهو كسائرالمباحات التي لا منفعة فيها . قال أبو علي الجوزجاني : كن طالباً للاستقامة ، لا طالباً للكرامة ، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة ، وربك يطلب منك الاستقامة .
قال الشيخ السهروردي في عوارفه : وهذا أصل كبير في الباب ، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين ، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات ، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب ، متهماً لنفسه في صحة عمله ، حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر ، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً ، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة - يقيناً ، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا ، والخروج عن دواعي الهوى . فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كل الكرامة .
ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان ، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً ، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً . فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة ، ومكروهاً لله أخرى .
وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن . وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له ، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة ، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ، وهو طاعته وطاعة رسوله ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه . وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وأما ما يبتلي الله به عبده ، من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء - فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه ، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه ، وشقي بها قوم إذا عصوه ، كما قال تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا . ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام :
قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة .
قسم يتعرضون بها لعذاب الله .
وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات ، كما تقدم .
وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان : كونية ، ودينية :
فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر . قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . وقال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته . والكون كله داخل تحت هذه الكلمات ، وسائر الخوارق .
والنوع الثاني : الكلمات الدينية ، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله ، وهي أمره ونهيه وخبره ، وحظ العبد منها العلم بها ، والعمل ، والأمر بما أمر الله به ، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثير فيها ، أي بموجبها . فالأولى تدبيرية كونية ، والثانية شرعية دينية . فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية ، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية . وقدرة الأولى التأثير في الكونيات ، إما في نفسه كمشيه على الماء ، وطيرانه في الهواء ، وجلوسه في النار ، وإما في غيره ، بإصحاح وإهلاك ، وإغناء وإفقار . وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات ، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً ، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية .
فإذا تقرر ذلك ، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه ، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات ، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات - : لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله ، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له ، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة ، فإن الخارق قد يكون مع الدين ، وقد يكون مع عدمه ، أو فساده ، أو نقصه . فالخوارق النافعة تابعة للدين ، خادمة له ، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين ، وكذلك المال النافع ، كما كان السلطان والمال [ النافع ] بيد النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر . فمن جعلها هي المقصودة ، وجعل الدين تابعاً لها ، ووسيلة إليها ، لا لأجل الدين في الأصل - : فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين ، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب ، أو رجاء الجنة ، فإن ذلك ما هو مأمور به ، وهو على سبيل نجاة ، وشريعة صحيحة . والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة - يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا ! !
ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلا بد أن يوجب خرق العادة ، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه . قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب . وقال تعالى : إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً . وقال تعالى : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً * وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً * ولهديناهم صراطاً مستقيماً . وقال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله إن في ذلك لآيات للمتوسمين . رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري . وقال تعالى ، فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبد يتقرب إلي بالنوافل ، حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه .
فظهر أن الاستقامة حظ الرب ، وطلب الكرامة حظ النفس . وبالله التوفيق .
وقول المعتزلة في إنكار الكرامة : ظاهر البطلان ، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات . وقولهم : لو صحت لأشبهت المعجزة ، فيؤدي إلى التباس النبي صلى الله عليه وسلم بالولي ، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة ، وهذا لا يقع ، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً ، بل كان متنبئاً كذاباً ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبىء ، عند قول الشيخ : وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى .
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا : أن الفراسة ثلاثة أنواع :
إيمانية ، وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم ، على القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها ، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة . قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان . انتهى .
وفراسة رياضية ، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها ، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ، ولا تدل على إيمان ، ولا على ولاية ، ولا تكشف عن حق نافع ، ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبادة الرؤساء والأظناء ونحوهم .
وفراسة خلقية ، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخلق على الخلق ، لما بينهما من الإرتباط ، الذي اقتضته حكمة الله ، كالإستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره على كبره ، وسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه ، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ، ونحو ذلك