] قوله ] : ( ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وعذاباً )
 
ش : قال الله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا . وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . وقال تعالى : ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك . فجعل أهل الرحمة مستثنين من الإختلاف . وقال تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد . وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة . وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة ، وأن الاختلاف واقع لا محالة وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن [ الشيطان ] ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصبة ، [ والناحية ] ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة ، والعامة ، والمسجد . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال لما نزل قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، قال : أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض - قال : هاتان أهون . فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض ، مع براءة الرسول من هذه الحال ، وهم فيها في جاهلية . ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو قرح أصيب بتأويل القرآن - فهو هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية . وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ، يعني قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى ، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية ، وهكذا تسلسل النزاع .
[والأمور] التي تتنازع فيها الأمة ، في الأصول والفروع - إذا لم ترد الى الله والرسول ، لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم ، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان يتنازعون في بعض مسائل الإجتهاد ، فيقر بعضهم بعضاً ، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الإختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول ، مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل ، مثل حبسه وضربه وقتله . والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن ، كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة ، وكفروا من خالفهم فيها ، واستحلوا منع حقه وعقوبته .
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول : إما عادلون وإما ظالمون ، فالعادل فيهم : الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ، ولا يظلم غيره ، والظالم : الذي يعتدي على غيره . وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون ، كما قال تعالى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم . وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل ، أقر بعضهم بعضاً ، كالمقلدين لأئمة العلم ، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل ، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول ، وقالوا : هذا غاية ما قدرنا عليه ، فالعادل منهم لا يظلم الآخر ، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل ، مثل أن يدعي أن قول مقلده هو الصحيح بلا حجة يبديها ، ويذم من خالفه ، مع أنه معذور .
ثم إن أنواع الإفتراق والإختلاف في الأصل قسمان :
إختلاف تنوع ، وإختلاف تضاد .
وإختلاف التنوع على وجوه :
منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : كلاكما محسن ، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل . ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الإختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك ! وهذا عين المحرم . وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه - : ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك . ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى والاعتداء على قائلها ! ونحو ذلك .
وأما اختلاف التضاد ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإما في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد . والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما ، أو معه دليل يقتضي حقاً ما ، فيرد الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض ، كما كان الأول مبطلاً في الأصل ، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة .
وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر . ومن جعل الله له هداية ونوراً رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور .
والإختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه . وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله . وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون . وكما في قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ، فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم . وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة . وكما في قوله : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر .
والإختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمت الأخرى ، كما في قوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، الآيات .
وأكثر الإختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة - من القسم الأول ، وكذلك إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء . لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك . ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم . لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة . وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الإختلاف على الرسل بالمعصية .
ثم الإختلاف في الكتاب ، من الذين يقرون به - على نوعين : أحدهما اختلاف في تنزيله ، والثاني اختلاف في تأويله . وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض :
فالأول كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكونه مخلوقاً في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته . وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
وأما الإختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر ، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية ، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا وكلتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا . وفي رواية : يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به . وفي رواية : فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا ، وإن المراء في القرآن كفر . وهو حديث مشهور ، مخرج في المسانيد والسنن . وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه ، من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري ، أن عبد الله بن عمرو قال : هجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ، فسمع صوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب .
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله ، مؤمنون ببعضه دون بعض ، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات ، وما يخالفه : إما أن يتأوله تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه ، وإما أن يقولوا : هذا متشابه لا يعلم أحد معناه ، فيجحدوا ما أنزله من معانيه ! وهو في معنى الكفر بذلك ، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً . وقال تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي : إلا تلاوة من غير فهم معناه . وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به ، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله ، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ، فامتثل ما أمر به صلى الله عليه وسلم