قوله : ( ودين الله في الأرض والسماء واحد ، وهو دين الإسلام ، قال الله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام . وقال تعالى : ورضيت لكم الإسلام ديناً . وهو بين [الغلو و] التقصير ، و بين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن والإياس )
 
ش : ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد . وقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه - عام في كل زمان ، ولكن الشرائع تتنوع ، كما قال تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً . فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله ، وأصل هذا الدين وفروعه روايته عن الرسل ، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز من صغير وكبير ، وفصيح وأعجم ، وذكي وبليد - : أن يدخل فيه بأقصر زمان ، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك ، من إنكار كلمة ، أو تكذيب ، أو معارضة ، أو كذب على الله ، أو ارتياب في قول الله تعالى ، أو رد لما أنزل ، أو شك فيما نفى الله عنه الشك ، أو غير ذلك مما في معناه . فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام ، وسهولة تعلمه ، وأنه يتعلمه الوافد ثم يولي في وقته . واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم ، فإن كان بعيد الوطن ، كضمام بن ثعلبة النجدي ، ووفد عبد القيس ، علمهم ما لم يسعهم جهله ، مع علمه أن دينه سينشر في الآفاق ، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون اليه ، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت ، بحيث يتعلم على التدريج ، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه - أجابه بحسب حاله وحاجته ، على ما تدل قرينة حال السائل ، كقوله : قل آمنت بالله ثم استقم . وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله ، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من المرسلين ، إذ هو باطل ، وملزوم الباطل باطل ، كما أن لازم الحق حق .
وقوله : بين الغلو والتقصير- قال تعالى : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ ! لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني . وفي غير الصحيحين : سألوا عن عبادته في السر ، فكأنهم تقالوها . وذكر في سبب نزول الآية الكريمة : عن ابن جريج ، عن عكرمة أن عثمان بن مظعون ، و علي بن أبي طالب ، و ابن مسعود ، و المقداد بن الأسود ، و سالم مولى أبي حذيفة ، رضي الله عنهم في أصحابه - تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني اسرائيل ، وهموا بالإختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الإختصاء ، فلما نزلت فيهم ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال : إن لأنفسكم عليكم حقاً ، وإن لأعينكم حقاً ، صوموا وأفطرواً ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت .
وقوله : وبين التشبيه والتعطيل - تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تشبيه ، فلا يقال : سمع كسمعنا ، ولا بصر كبصرنا ، ونحوه ، ومن غير تعطيل ، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به أعرف الناس به : رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك تعطيل ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى . ونظير هذا القول قوله : ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه . وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فقوله : ليس كمثله شيء - رد على المشبهة ، وقوله : وهو السميع البصير - رد على المعطلة .
وقوله : وبين الجبر والقدر - تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى ، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله ، وأنها [ليست] بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها ، وليست مخلوقة للعباد ، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى .
وقوله : وبين الأمن والإياس - تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى ، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه ، راجياً رحمته ، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد ، في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة