معرفة السنة وأئمتها
 
فإِن قيل: كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم، وعن أَصحابه النجباء الألباء، الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، رضى الله تعالى عنهم.
فإِن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورقهم هذه المعرفة، في كل دهر وزمان.
حَدثنا أَبو محمد عَبد الرَّحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، حَدثنا أَبي، قال: أَخْبَرني عَبدَة بن سُليمان المَرْوَزي، قال: قيل لإبن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة.
فإِن قيل: فما الدليل على صحة ذلك؟ قيل له: إتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك، ولم ينزلهم الله عز وجل هذه المنزلة إذ أنطق ألسنة أهل العلم لهم بذلك، إِلاَّ وقد جعلهم أعلاما لدينه، ومنارا لإستقامة طريقه، وألبسهم لباس أعمالهم.
(1/2)

فإِن قيل: ذكرت إتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك، وقد علمت بما كان بين علماء أهل الكوفة وأهل الحجاز من التباين، والإختلاف في المذهب، فهل وافق أَبو حنيفة، وأَبو يوسف، ومحمد بن الحسن جماعة من ذكرت من أهل العلم في التزكية لهؤلاء الجهابذة النقاد، أَو وجدنا ذلك عندهم؟ قيل: نعم، قَال سُفيان الثَّوريّ: ما سألت أَبَا حنيفة عن شيء، ولقد كان يلقاني ويسأَلني عن أشياء.
فهذا بين واضح، إذ كان صورة الثَّوري عنده هذه الصورة أَن يفزع إِليه في السؤال عما يشكل عليه أَنه قد رضيه إماما لنفسه ولغيره.
حَدثنا عَبد الرَّحمن، حَدثنا أَبو بكر الجارودي محمد بن النضر النيسابوري، قال: سَمِعتُ أَحمد بن حفص يقول: سَمِعتُ أَبي يقول: سَمِعتُ إِبراهيم بن طهمان يقول: أَتيت المدينة فكتبت بها، ثم قدمت الكوفة فأتيت أَبَا حنيفة في بيته فسلمت عليه، فقال لي: عمن كتبت هناك؟ فسميت له، فقال: هل كتبت عن مالك بن أَنس شيئًا؟ فقلت: نعم، فقال: جئني بما كتبت عنه، فأتيته به، فدعا بقرطاس ودواة، جعلت أملي عليه، وهو يكتب.
قال أَبو محمد: ما كتب أَبو حنيفة عن إِبراهيم بن طهمان، عن مالك بن أَنس، ومالك بن أَنس حي، إِلاَّ وقد رضيه ووثقه، ولا سيما إذ قصد من بين جميع من كتب عنه بالمدينة مالك بن أَنس، وسأله أَن يملي عليه حديثه، فقد جعله إماما لنفسه ولغيره.
(1/3)

وأما محمد بن الحسن؛ فحَدثنا محمد بن عَبد الله بن عَبد الحكم، قال: سَمِعتُ الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما، أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يَعني أَبَا حنيفة، ومالك بن أَنس، قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم، قلتُ: فأنشدك الله، من أعلم بالقرآن، صاحبنا، أَو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، يَعني مالكا، قلتُ: فمن أعلم بالسنة، صاحبنا، أَو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قلت: فأنشدك الله، من أعلم بأقاويل أَصحاب رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم والمتقدمين، صاحبنا، أَو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قال الشافعي: فقلت: لم يبق إِلاَّ القياس، والقياس لا يكون إِلاَّ على هذه الأَشياء، فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شيء يقيس؟.
قال عَبد الرَّحمن: فقد قدم محمد بن الحسن مالك بن أَنس على أبي حنيفة، وأقر له بفضل العلم بالكتاب والسنة والآثار، وقد شاهدهما ورَوَى عَنهما.
حَدثنا عَبد الرَّحمن، قال: وقد حَدثنا أبي رحمه الله، حَدثنا محمد بن عَبد الله بن عَبد الحكم، قال: سَمِعتُ الشافعي يقول: كان محمد بن الحسن يقول: سمعت من مالك سبعمِئَة حديث ونيفا إلى الثمانمِئَة، لفظا، وكان أقام عنده ثلاث سنين، أَو شبيها بثلاث سنين، وكان إِذا وعد الناس أَن يحدثهم عن مالك إمتلأ الموضع الذي هو فيه، وكثر الناس عليه، وإذا حدث عن غير مالك لم يأته إِلاَّ النفير، فقال لهم: لو أراد أحد أَن يعيبكم بأكثر مما تفعلون ما قدر عليه، إِذا حدثتكم عن أَصحابكم، فإِنما يأتيني النفير أعرف فيكم الكراهة، وإذا حدثتكم عن مالك إمتلا على الموضع.
فقد بان بلزوم محمد بن الحسن مالكا لحمل العلم عنه وبثه في الناس، رضا منه وموافقة لمن جعله إماما ومختارا.
(1/4)

الموضوع التالي


التمييز بين الرواة

الموضوع السابق


مقدمة المؤلف