رسالة في التوسل والوسيلة‏‏‏‏
 

/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدى الساعة بشيراً ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد فى الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه‏.‏ فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله‏.‏
وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه فى باطنه وظاهره‏.‏ والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله، وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التى أمر الله بها عباده فى قوله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه‏.‏
وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد، باطناً وظاهراً، فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، فى مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق فى حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار‏.‏ ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.‏
وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاها عند الله، وقد قال تعالى عن موسى‏:‏ ‏{وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏ ، وقال عن المسيح‏:‏‏{وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏45‏]‏‏.‏ ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاها من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
ولفظ التوسل فى عرف الصحابة كانوا يستعملونه فى هذا المعنى‏.‏ والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغنى عنهم شفاعة الشافعين فى الآخرة‏.‏
/ولهذا نهى عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهى عن الاستغفار للمنافقين وقيل له‏:‏ ‏{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏، ولكن الكفار يتفاضلون فى الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان فى الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏‏.‏
فإذا كان فى الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته فى تخفيف العذاب عنه لا فى إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشىء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ‏؟‏ قال ‏:‏‏(‏نعم هو فى ضحْضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرْك الأسفل من النار‏)‏، وفى لفظ‏:‏ إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، وجدته فى غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏، وفيه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعْبيه يغلى منهما دماغه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه‏)‏‏.‏
وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يُعجل عليهم العذاب فى الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏ وروى أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب فى الدنيا؛ قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وأيضا، فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبى هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال‏:‏ ‏(‏اللهم اهـد دوسـاً وائت بهم‏)‏، فهداهم الله، وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقى لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعاً‏.‏
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ـ ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً ـ فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى عنه‏:‏ ‏{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏، وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبى طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏
ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏‏:‏ 114، 115‏]‏، وثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يلْقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك‏:‏ لا تعصنى ‏؟‏ فيقول له أبوه‏:‏ فاليـوم لا أعصيك‏.‏ فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب، أنت وعدتنى ألا تُخْزنى يوم يُبْعثون، وأي خزْى أخْزى من أبى الأبعد ‏؟‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ إنى حرمتُ الجنة على الكافرين، ثم يقال‏:‏ انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ مُتلطخ ‏[‏الذيخ‏:‏ ذكر الضباع ، وأراد بالتلطخ‏:‏ التلطخ برجيعه أو بالطين‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2 174‏]‏، فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار‏)‏، فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا فى قول إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}‏ فإن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏
وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏استـأذنت ربـى أن أستغفر لأمـى فلم يأذن لــى، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى‏)‏‏.‏ وفى رواية‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال‏:‏ ‏(‏استأذنتُ ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى، فزروا القبور، فإنها تُذكر الموت‏)‏‏.‏ وثبت عن أنس فى الصحيح أن رجلا قال ‏:‏يا رسول الله، أين أبى ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فى النار‏)‏، فلما قفى دعاه فقال ‏:‏‏(‏إن أبى وأباك فى النار‏)‏‏.‏ وثبت أيضاً فى الصحيح عن أبى هريرة‏:‏ لمــا أنزلت هذه الآية‏:‏‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال‏:‏ ‏(‏يا بنى كعب ابن لؤى، انقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا فاطمة، أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ‏[‏أى أصلكم فى الدنيا، ولا أُغنى عنكم من الله شيئاً، والبلال جمع بلل، وقيل‏:‏ هو كل ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره، انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 351‏]‏‏)‏ ، وفى رواية عنه‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإنى لا أغنى عنكم من الله شيئاً‏.‏ يا بنى عبد المطلب، لا أغنى عنكم من الله شيئاً‏.‏ يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً‏.‏ يا فاطمة بنت رسول الله، سلينى من مالى ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ وعن عائشة لما نزلت‏:‏ ‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏214‏]‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا‏.‏ سلونى من مالى ما شئتم‏)‏‏.‏
وعن أبى هريرة قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فذكر الغُلُول فعظمه وعظم أمره ثـم قـال‏:‏ ‏(‏لا أُلْفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير لهُ رُغاء ‏[‏الرغاء‏:‏ صوت الإبل‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2 240‏]‏ يقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمْحمة ‏[‏الحمحمة‏:‏ صوت الفرس دون الصهيل‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 436‏]‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك‏.‏ لا ألفـين أحــدكم يجىء يــوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء ‏[‏الثغاء‏:‏ صياح الغنم‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 214‏]‏، فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ‏[‏أراد بالرقاع‏:‏ ما عليه من الحقوق المكتوبة فى الرقاع، وخفوقها‏:‏ حركتها‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2251‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت ‏[‏صامت‏:‏ يعنى الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 3 52‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك ‏(‏أخرجاه فى الصحيحين ، وزاد مسلم‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏)‏‏.‏ وفى البخارى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ولا يأتى أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار ‏[‏اليُعار‏:‏ صياح الشاة‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 5 297‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا محمد، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد بلغت‏.‏ ولا يأتى أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رُغاء فيقول‏:‏ يا محمد، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد بلغت‏)‏‏.‏ وقوله هنا صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا أملك لك من الله شيئا‏)‏ كـقول إبـراهيـم لأبيـه‏:‏ ‏{لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهى نافعة فى الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة فى زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن بعض أهل البدعة ينكرها‏.‏
وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء‏:‏ من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم فى الشخص الواحد ثواب وعقاب‏.‏ وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوماً بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوماً بلا شفاعة‏.‏
واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وجواب أهل السنة أن هذا يراد به شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى فى نعتهم‏:‏ ‏{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏:‏42‏:‏ 48‏]‏، فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفاراً‏.‏
والثانى‏:‏ أنه يراد بذلك نفى الشفاعة التى يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة‏.‏
فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون‏:‏ هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة‏.‏
فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى‏:‏ ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، وقال عن الملائكة‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏26‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏94‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ َسْتَبْشِرُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا َمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108، 109‏]‏، وقال صاحب يس‏:‏ ‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22 ـ 25‏]‏‏.‏
فهذه الشفاعة التى أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم وقالوا‏:‏ استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا‏:‏ نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوَّروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله ورسوله وذم المشركين عليها وكفرهم بها‏.‏ قال الله تعالى عن قوم نوح‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضلالا}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23، 24‏]‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هؤلاء قوم صالحون كانوا فى قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، وهذا مشهور فى كتب التفسير والحديث /وغيرها كالبخارى وغيره، وهذه أبطلها النبى صلى الله عليه وسلم وحسم مادتها وسد ذَرِيعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها، وإن كان المصلى فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور وأرسل على بن أبى طالب فأمره ألا يدع قبراً مُشْرفًا إلا سَوَّاه، ولا تمثالا إلا طَمَسَه ومَحَاه، ولعن المصورين‏.‏ وعن أبى الهياج الأسدى، قال لى على بن أبى طالب‏:‏ لأبعثك على ما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ولا صورة إلا طمستها‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏